فصل: باب الْمَرِيضِ يَطُوفُ رَاكِبًا

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: شرح صحيح البخاري لابن بطال ***


باب الْكَلامِ فِى الطَّوَافِ

- فيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، أَنَّ النَّبِىَّ عليه السَّلام مَرَّ، وَهُوَ يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ بِإِنْسَانٍ رَبَطَ يَدَهُ إِلَى إِنْسَانٍ بِسَيْرٍ أَوْ بِخَيْطٍ أَوْ بِشَىْءٍ غَيْرِ ذَلِكَ، فَقَطَعَهُ النَّبِىُّ عليه السَّلام بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏(‏قُدْهُ بِيَدِهِ‏)‏‏.‏

وترجم له باب إذا رأى سيرًا أو شيئًا يكره فى الطواف قطعه‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ أَوْلى ما شَغَلَ المرءُ به نفسَهُ فى الطواف ذكرُ الله وقراءة القرآن، ولا يشتغل فيه بما لا يجدى عليه منفعة فى الآخرة، مع أنا لا نحرم الكلام المباح فيه، غير أن الذكر فيه أسلم؛ لأن من تخطى الذكر إلى غيره لم يأمن أن يخرجه ذلك إلى ما لا تحمد عاقبته، وقد قال ابن عباس‏:‏ ‏(‏الطواف صلاة، ولكن قد أذن الله لكم فيه بالكلام، فمن نطق فلا ينطق إلا بخير‏)‏‏.‏

وقال عطاء‏:‏ كانوا يطوفون ويتحدثون‏.‏

وقال مالك‏:‏ لا بأس بالكلام فيه، فأما الحديث فأكرهه‏.‏

واختلفوا فى قراءة القرآن، فكان ابن المبارك يقول‏:‏ ليس شىء أفضل من قراءة القرآن‏.‏

وكان مجاهد يقرأ عليه القرآن فى الطواف، واستحبه الشافعى وأبو ثور، وقال الكوفيون‏:‏ إذا قرأ فى نفسه‏.‏

وكرهت طائفة قراءة القرآن، وروى ذلك عن عروة والحسن البصرى ومالك ابن أنس، وقال مالك‏:‏ وما القراءة فيه من عمل الناس القديم، ولا بأس به إذا أخفاه، ولا يكثر منه‏.‏

قال عطاء‏:‏ قراءة القرآن فى الطواف محدث‏.‏

وقال ابن المنذر‏:‏ والقراءة أحب إلى من التسبيح، وكُل حَسَن، ومن أباح قراءة القرآن فى الطرق والبوادى ومنعه الطائف متحكم مدع لا حجة له‏.‏

وينبغى أن يفتتح الطواف بتوحيد الله كما يفتتح الصلاة بالتكبير، ويخشع لربه، ويعقل بِبَيْتِ مَنْ يطوف، ولمعروف من يتعرض، وليسأل غفران ذنوبه والتجاوز عن سيئاته، ويشغل نفسه بذلك وخواطره، ويترك أمور الدنيا، كما فعل ابن عمر حين خطب إليه عروة بن الزبير ابنته فى الطواف، فلم يرد عليه كلامًا، فلما جاء إلى المدينة لقيه عروة فقال له ابن عمر‏:‏ ‏(‏أدركتنى فى الطواف ونحن نتراءى الله بين أعيننا، فذاك الذى منعنى أن أرد عليك، ثم زوجه‏)‏، والذى سأل عروةُ باب من أبواب المباح، فأبى ابن عمر أن يجيبه تعظيمًا لله تعالى إذ هو طائف ببيته الحرام‏.‏

وفى قطعه عليه السلام السير من يد الطائف من الفقه أنه يجوز للطائف فعل ما خف من الأفعال، وأنه إذا رأى منكرًا فله أن يغيره بيده، وإنما قطعه والله أعلم لأن القود بالأزمَّة إنما يُفعل بالبهائم، وهو مُثْلَة، وقد روى ابن جريج عن سليمان الأحول، عن طاوس، عن ابن عباس ‏(‏أن الرسول مَرَّ وهو يطوف بالبيت بإنسان يقوده إنسان بخزامة فى أنفه، فقطعه عليه السلام وأمره أن يقوده بيده‏)‏‏.‏

باب لا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ وَلا يَحُجُّ مُشْرِكٌ

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ بَعَثَهُ فِى الْحَجَّةِ الَّتِى أَمَّرَهُ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ يَوْمَ النَّحْرِ فِى رَهْطٍ يُؤَذِّنُ فِى النَّاسِ‏:‏ ‏(‏أَلا لا يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ أراد عليه السلام أن ينظف له البيت من المشركين والعراة، ويكون حجه بهم عليه السلام على نظافة البيت من هاتين الطائفتين، وقد اختلف الناس فى حجة أبى بكر هذه إن كانت حجة الإسلام بعد نزول فرضه لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 97‏]‏ أو إن كانت على حج الجاهلية ومواسمها، والذى يعطى النظر أن حجة أبى بكر بالناس كانت حجة الإسلام وبعد نزول فرضه؛ لأن وقوفه كان بعرفة مع الناس كافة، وإنما كان الحمس وهم قريش يقفون بالمشعر الحرام، فلما خالف أبو بكر العادة بقريش، وأخرجهم من الحرم إلى عرفات، دل أنه إنما وقف بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن النبى صلى الله عليه وسلم إنما امتثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 199‏]‏ يعنى العرب كافة، وقوله تعالى هذا هو متقدم بفرض الحج ووصف شرايعه كلها‏.‏

فثبت بهذا أن حجة أبى بكر على حج الإسلام، مع أنه أيضًا حج فى ذى الحجة، وكانت العرب لا تتوخى بحجها إلا ما كانت عليه من النسئ، يحلونه عامًا ثم يحرمونه عامًا آخر، ودليل آخر أنه حج حجة الإسلام بعد نزول فرضه؛ بعثته عليه السلام لعلى فى أثره لينادى المشركين ببراءة، ولينبذ إليهم عهدهم بكتاب الله، وكذلك أمره ألا يطوف عريان ولا يحج مشرك؛ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 28‏]‏ وفى هذه السورة ذكر النسئ وذكر شرائع الحج، وهذا يدل أن الحج لازم للمسلمين، ليس على الفور ولا على وقت معين كالصلاة والزكاة والصيام، بل فى العمر كله مرة متى وجد إليه سبيلا، لا يتعلق بوقت دون وقت؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يحج بعد فور نزول فرض الحج عليه، بل أخر ذلك إلى عام آخر‏.‏

قال ابن خواز بنداد‏:‏ وقد اختلف فى هذه المسألة أصحاب مالك‏:‏ وأصحاب أبى حنيفة، وأصحاب الشافعى على قولين، فقال مالك‏:‏ إذا كانت المرأة صرورة أجبر الزوج على الإذن لها فى الحج ولا تعجل عليه وتؤخر عامًا بعد عام‏.‏

قال‏:‏ وسئل سحنون عن الرجل يجد ما يحج به فيؤخر ذلك سنين كثيرة مع قدرته على الحج، هل يفسق بتأخيره الحج وترد شهادته‏؟‏ قال‏:‏ لا يفسق وإن مضى من عمره ستون سنة يؤخر فيها الحج وهو قادر على فعله، فإذا جاوز الستين سنة فسق وردت شهادته، قال‏:‏ وتحصيل مذهبنا أن الحج تأخيره مع القدرة عليه، ورأينا أصحابنا العراقيين من المالكيين يقولون‏:‏ هو على الفور، ولا يجوز تأخيره مع القدرة، وهو قول أبى يوسف والمزنى، وروى عن محمد بن الحسن أنه على التراخى، وكذلك روى عن أصحاب الشافعى القولان جميعًا‏.‏

باب إِذَا وَقَفَ فِى الطَّوَافِ

وَقَالَ عَطَاءٌ‏:‏ فِيمَنْ يَطُوفُ فَتُقَامُ الصَّلاةُ أَوْ يُدْفَعُ عَنْ مَكَانِهِ‏:‏ إِذَا سَلَّمَ يَرْجِعُ إِلَى حَيْثُ قُطِعَ عَلَيْهِ فَيَبْنِى، وَيُذْكَرُ نَحْوُهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَعَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ أَبِى بَكْرٍ‏.‏

باب صَلَّى النَّبِىُّ عليه السَّلام لِسُبُوعِهِ رَكْعَتَيْنِ

وَقَالَ نَافِعٌ‏:‏ كَانَ ابْنُ عُمَرَ يُصَلِّى لِكُلِّ سُبُوعٍ رَكْعَتَيْنِ‏.‏

وقال إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ‏:‏ قُلْتُ لِلزُّهْرِىِّ‏:‏ إِنَّ عَطَاءً يَقُولُ‏:‏ تُجْزِئُهُ الْمَكْتُوبَةُ مِنْ رَكْعَتَىِ الطَّوَافِ، فَقَالَ‏:‏ السُّنَّةُ أَفْضَلُ، لَمْ يَطُفِ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم سُبُوعًا قَطُّ إِلا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ‏.‏

- فيه‏:‏ عَمْرٍو، سَأَلْنَا ابْنَ عُمَرَ أَيَقَعُ الرَّجُلُ عَلَى امْرَأَتِهِ فِى الْعُمْرَةِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَطَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا، ثُمَّ صَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ، وَطَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَقَالَ‏:‏ ‏(‏لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ إِسْوَةٌ حَسَنَةٌ ‏(‏، وَسَأَلْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِاللَّهِ، فَقَالَ‏:‏ لا يَقْرَبُ امْرَأَتَهُ حَتَّى يَطُوفَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ‏.‏

وترجم له‏:‏ ‏(‏باب من صلى ركعتى الطواف خلف المقام‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ قال مالك‏:‏ لا ينبغى الوقوف ولا الجلوس فى الطواف، فإن فعل منه شيئًا بنى فيما خف ولم يتطاول وأجزأه‏.‏

وقال نافع‏:‏ ما رأيت ابن عمر قائمًا قط إلا عند استلام الركن، وقال عمرو بن دينار‏:‏ رأيت ابن الزبير يطوف فيسرع، قال نافع‏:‏ ويقال‏:‏ القيام فى الطواف بدعة، وطاف ابن عمر فى يوم حار ثم قعد فى الحجر، ثم استراح، ثم أتى ما بقى، وأجاز عطاء أن يجلس ويستريح فى الطواف، فإن قيل‏:‏ فما معنى ذكره أن النبى عليه السلام طاف لسبوعه وصلى ركعتين فى باب إذا وقف فى الطواف‏؟‏ قيل‏:‏ معناه والله أعلم أنه صلى الله عليه وسلم حين طاف و ركع بأثره ركعتين لم يحفظ عنه أنه وقف ولا جلس فى طوافه‏.‏

ولذلك قال نافع‏:‏ إن القيام فيه بدعة إلا أن يضعف فلا بأس بالوقوف والقعود اليسير فيه للراحة، ويبنى عليه، وإنما كره العلماء القعود فيه والوقوف لغير عذر والله أعلم لأن من أجاب دعوة أبيه إبراهيم على بُعْدِ الشقة وشدة المشقة لا يصلح إذا بلغ إلى العمل أن يتوانى فيه بوقوف أو قعود لغير عذر، ولهذا المعنى والله أعلم كان ابن الزبير يسرع فى طوافه‏.‏

وجمهور العلماء يرون لمن أقيمت عليه الصلاة البناء على طوافه إذا فرغ من صلاته، روى ذلك عن ابن عمر، وعطاء، والنخعى، وابن المسيب، وطاوس، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور إلا الحسن البصرى فإنه قال‏:‏ يبتدئ الطواف‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ وحجة الجماعة أن الخارج إلى الصلاة المكتوبة معذور قد حيل بينه وبين أن يتم طوافه، فإذا فرغ ووجد السبيل إلى إكماله أكمله، وغير جائز أن يبطل عمل الطائف بغير حجة‏.‏

وفى المسألة خلاف آخر ذكره عبد الرزاق عن أبى الشعثاء، أنه أقيمت عليه الصلاة وطاف خمسة أطواف فلم يتم ما بقى، وعن سعيد بن جبير مثله، وعن عطاء‏:‏ إن كان الطواف تطوعًا وخرج فى وتر فإنه يجزئ عنه، وكذلك إن عرضت له حاجة فخرج فيها‏.‏

وعن ابن عباس‏:‏ من بدت له حاجة فخرج لها فليخرج على وتر من طوافه، ويركع ركعتين ولا يَعُدْ لبقيته‏.‏

وقال مالك‏:‏ من طاف بعض طوافه ثم خرج لصلاة على جنازة، أو خرج لنفقة نسيها، فليستأنف الطواف ولا يبنى، ولا يخرج من طوافه لشىء إلا الصلاة الفريضة، وهو قول الشافعى وأبى ثور، وقال أشهب‏:‏ يبنى إذا صلى على جنازة، وهو قول أبى حنيفة، وقال ابن المنذر‏:‏ لا يخرج من بِرٍّ هو فيه إلى بِرٍّ، وليتم طوافه‏.‏

واختلف العلماء فيمن طاف سبوعًا ثم وافق صلاة مكتوبة هل تجزئه من ركعتى الطواف‏؟‏ فروى عن ابن عمر أنه أجاز ذلك خلاف ما ذكره البخارى عنه أنه كان يفعله، وروى مثله عن سالم وعطاء وأبى الشعثاء، قال أبو الشعثاء‏:‏ ولو طاف خمسة‏.‏

وقال الزهرى ومالك وأبو حنيفة‏:‏ لا يجزئه‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ ويشبه مذهب الشافعى، وهو قول أبى ثور، واحتجاج ابن شهاب على عطاء فى هذا الباب بأن النبى عليه السلام لم يطف سبعًا قط إلا صلى ركعتين فى أنه لا تجزئه المكتوبة من ركعتى الطواف؛ مغن عن غيره، وكان طاوس يصلى لكل سبوع أربع ركعات، فذكر ذلك لابن جريج فقال‏:‏ حدثنا عطاء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلى على كل سبوع ركعتين‏.‏

وعلى هذا مذهب الفقهاء‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ ثبت أن النبى صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت سبعًا وصلى ركعتين‏.‏

وأجمعوا أن من فعل فعله عليه السلام فهو متبع للسنة، ورخصت طائفة أن يجمع أسابيع ثم يركع لها كلها، روى ذلك عن عائشة وعطاء وطاوس، وبه قال أبو يوسف وأحمد وإسحاق، وكره ذلك ابن عمر والحسن البصرى وعروة والزهرى، وهو قول مالك والكوفيين وأبى ثور، وهذا القول أولى؛ لأن فاعله متبع للسنة‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ وأرجو أن يجزئ القول الأول، وهو كمن صلى وعليه صلاة قبلها، أو طاف وعليه صلاة ثم صلاها بعد طوافه، قال‏:‏ وثبت أن النبى عليه السلام صلى ركعتى الطواف عند المقام‏.‏

وأجمع العلماء أن الطائف يجوز أن يركعهما حيث شاء إلا مالكًا فإنه كره أن يركعهما فى الحجر، وقد صلى ابن عمر ركعتى الطواف فى البيت، وصلاهما ابن الزبير فى الحجر، قال مالك‏:‏ ومن صلى ركعتى الطواف والمروة، وإن لم يركعهما حتى يبلغ بلده أهراق دمًا ولا إعادة عليه‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ ولا يخلو من صلى فى الحجر ركوع الطواف أن يكون قد صلاهما، فلا إعادة عليه، أو يكون فى معنى من لم يصلهما فعليه أن يعيد أبدًا، فأما أن يكون بمكة فى معنى من لم يصلهما وإن رجع إلى بلاده فى معنى من قد صلاهما، فلا أعلم لقائله حجة فى التفريق بين ذلك، ولا أعلم الدم يجب فى شىء من أبواب الطواف‏.‏

باب مَنْ لَمْ يَقْرَبِ الْكَعْبَةَ وَلَمْ يَطُفْ حَتَّى يَخْرُجَ إِلَى عَرَفات وَيَرْجِعَ بَعْدَ الطَّوَافِ الأوَّلِ

- فيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، قَدِمَ النَّبِىُّ عليه السَّلام مَكَّةَ فَطَافَ وَسَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَلَمْ يَقْرَبِ الْكَعْبَةَ بَعْدَ طَوَافِهِ بِهَا، حَتَّى رَجَعَ مِنْ عَرَفَةَ‏.‏

قال المهلب‏:‏ معنى قوله‏:‏ من لم يقرب الكعبة، يريد من لم يطف طوافًا آخر تطوعًا غير طواف الورود؛ لأن الحاج لا طواف عليه غير طواف الورود حتى يخرج إلى عرفات وينصرف ويرمى جمرة العقبة، وكذلك يطوف طواف الإفاضة الذى هو الفرض، وهذا معنى حديث ابن عباس، وهو اختيار مالك لا ينتقل بطواف بعد طواف الورود حتى يتم حجه، وقد جعل الله فى ذلك توسعة، فمن أراد أن يطوف بعد طواف الورود فله ما شاء من ذلك ليلاً ونهارًا، ولا سيما إن كان من أقاصى البلدان، ومن لا عهد به بالطواف بالبيت فقد قال مالك‏:‏ إن الطواف بالبيت أفضل من صلاة النافلة لمن كان من أهل البلاد البعيدة؛ لقلة وجود السبيل إلى البيت‏.‏

وروى عن عطاء والحسن قالا‏:‏ إذا أقام الغريب بمكة أربعين يومًا كانت الصلاة أفضل له من الطواف، وقال أنس‏:‏ الصلاة للغرباء أفضل‏.‏

باب مَنْ صَلَّى رَكْعَتَىِ الطَّوَافِ خَارِجًا مِنَ الْمَسْجِدِ

وَصَلَّى عُمَرُ خَارِجًا مِنَ الْحَرَمِ‏.‏

- فيه‏:‏ أُمِّ سَلَمَةَ، أَنَّ نَبِى اللَّه صلى الله عليه وسلم، قَالَ وَهُوَ بِمَكَّةَ وَأَرَادَ الْخُرُوجَ وَلَمْ تَكُنْ طَافَتْ بِالْبَيْتِ وَأَرَادَتِ الْخُرُوجَ‏:‏ ‏(‏إِذَا أُقِيمَتْ صَلاةُ الصُّبْحِ فَطُوفى عَلَى بَعِيرِكِ، وَالنَّاسُ يُصَلُّون‏)‏، فَفَعَلَتْ ذَلِكَ، فَلَمْ تُصَلِّ حَتَّى خَرَجَتْ‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ واختلفوا فى من نسى ركعتى الطواف حتى خرج من الحرم أو رجع إلى بلاده، فقال عطاء والحسن البصرى‏:‏ يركعهما حيثما ذكر من حِلٍّ أو حَرَم، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعى، وهو موافق لحديث أم سلمة؛ لأنه ليس فى الحديث أنها صلتها فى الحرم أو فى الحل، وقال الثورى‏:‏ يركعهما حيث شاء ما لم يخرج من الحرم‏.‏

قال مالك‏:‏ إن لم يركعهما حتى تباعد أو رجع إلى بلاده عليه دم‏.‏

وقال فى المدونة‏:‏ من طاف فى غير إبّان صلاة أَخَّرَ الركعتين، وإن خرج إلى الحل ركعهما فيه ويجزئانه ما لم ينتقض وضوءه، فإن انتقض قبل أن يركعهما وكان طوافه ذلك واجبًا رجع فابتدأ بالطواف بالبيت وركع؛ لأن الركعتين من الطواف تُوصَلا به إلا أن يتباعد، فليركعهما ويهدى ولا يرجع‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ ليس ذلك أكثر من صلاة المكتوبة، وليس على من تركها إلا قضاؤها حيث ذكرها‏.‏

باب الطَّوَافِ بَعْدَ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ

وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُصَلِّى رَكْعَتَىِ الطَّوَافِ مَا لَمْ تَطْلُعِ الشَّمْسُ، وَطَافَ عُمَرُ بَعْدَ صَلاةِ الصُّبْحِ، فَرَكِبَ حَتَّى صَلَّى الرَّكْعَتَيْنِ بِذِى طُوًى، يعنِى بعد طلوع الشَّمس‏.‏

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ، أَنَّ نَاسًا طَافُوا بِالْبَيْتِ بَعْدَ صَلاةِ الصُّبْحِ، ثُمَّ قَعَدُوا إِلَى الْمُذَكِّرِ، حَتَّى إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ قَامُوا يُصَلُّونَ‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، سَمِعْتُ النَّبِىَّ عليه السَّلام يَنْهَى عِنِ الصَّلاةِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَعِنْدَ غُرُوبِهَا‏.‏

- قَالَ عَبْدُالْعَزِيزِ بْنُ رُفَيْعٍ‏:‏ رَأَيْتُ ابْن الزُّبَيْرِ، يَطُوفُ بَعْدَ الْفَجْرِ، وَيُصَلِّى رَكْعَتَيْنِ، وَيُخْبِرُ عن عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِىَّ عليه السَّلام لَمْ يَدْخُلْ بَيْتَهَا قط إِلا صَلاهُمَا‏.‏

قال المؤلف‏:‏ قد ذكر البخارى الخلاف فى هذه المسألة عن الصحابة، وكان ابن عمر يصلى بعد الصبح والعصر ركعتى الطواف، وهو قول عطاء، وطاوس، والقاسم، وعروة، وإليه ذهب الشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وحجتهم حديث ابن عيينة عن أبى الزبير، عن عبد الله بن بابيه، عن جبير بن مطعم‏:‏ أن النبى عليه السلام قال‏:‏ ‏(‏يا بنى عبد مناف، لا تمنعن أحدًا طاف بهذا البيت وصلى أى ساعة شاء من ليل أو نهار‏)‏‏.‏

فَعَمَّ الأوقات كلها‏.‏

وروى عن أبى سعيد الخدرى مثل قول عمر بن الخطاب‏:‏ لا بأس بالطواف بعد الصبح والعصر، ويؤخر الركعتين إلى بعد طلوع الشمس وبعد غروبها رواه سفيان عن الزهرى، عن عروة، عن عبد الرحمن بن عبد القارى قال‏:‏ طاف عمر بالبيت بعد الصبح فلم يركع، فلما صار بذى طوى وطلعت الشمس صلى ركعتين، وهو قول مالك وأبى حنيفة والثورى‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ فهذا عمر، رضى الله عنه، لم يركع حين طاف؛ لأنه لم يكن عنده وقت صلاة، وأخر ذلك إلى أن دخل عليه وقت الصلاة، وهذا بحضرة جماعة من أصحاب النبى عليه السلام فلم ينكره عليه منهم أحد، ولو كان ذلك الوقت عنده وقت صلاة الطواف لصلى، ولما أخر ذلك؛ لأنه لا ينبغى لأحد طاف بالبيت إلا أن يصلى حينئذ إلا من عذر‏.‏

وقد روى ذلك عن معاذ بن عفراء، وعن ابن عمر، حدثنا ابن خزيمة، حدثنا حجاج، حدثنا همام، حدثنا نافع‏:‏ أن ابن عمر قدم عند صلاة الصبح فطاف ولم يصل إلا بعد ما طلعت الشمس، فهذا قول آخر عن ابن عمر فى المسألة غير ما ذكره عنه البخارى‏.‏

قال المهلب‏:‏ وما ذكره البخارى عن ابن عمر أنه كان يركع ركعتى الطواف ما لم تطلع الشمس، وهو يروى نهى النبى عليه السلام عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها، فيدل والله أعلم أن النهى عنده عن ذلك إنما هو عند موافقة الطلوع والغروب، فأما إذا أمن أن يوافق ذلك فله أن يصلى ركعتى الطواف؛ لأن الوقت لهما واسع، ومن سنتهما الاتصال بالطواف‏.‏

وقد بين ذلك ما رواه الطحاوى قال‏:‏ حدثنا أحمد بن داود قال‏:‏ نا يعقوب بن حميد، حدثنا ابن أبى غنية، عن عمر بن ذر، عن مجاهد قال‏:‏ كان ابن عمر يطوف بعد العصر ويصلى ما كانت الشمس بيضاء حية، فإذا اصفرت وتغيرت طاف طوافًا واحدًا حتى يصلى المغرب، ثم يصلى ويطوف بعد الصبح ما كان فى غلس، فإذا أسفر طاف طوافًا واحدًا ثم يجلس حتى ترتفع الشمس ويمكن الركوع، وهذا قول مجاهد والنخعى وعطاء، وهو قول ثالث فى المسألة ذكره الطحاوى‏.‏

باب الْمَرِيضِ يَطُوفُ رَاكِبًا

- فيه‏:‏ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِىّ عليه السَّلام طَافَ بِالْبَيْتِ وَهُوَ عَلَى بَعِيرٍ، كُلَّمَا أَتَى عَلَى الرُّكْنِ أَشَارَ إِلَيْهِ بِشَىْءٍ فِى يَدِهِ وَكَبَّرَ‏.‏

- وفيه‏:‏ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ‏:‏ شَكَوْتُ إِلَى النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم أَنِّى أَشْتَكِى، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏طُوفِى مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ، وَأَنْتِ رَاكِبَةٌ‏)‏، فَطُفْتُ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّى إِلَى جَنْبِ الْبَيْتِ، وَهُوَ يَقْرَأُ بِ‏:‏ ‏(‏الطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ‏}‏‏.‏

قد تقدم فى ‏(‏باب‏:‏ التكبير عند الركن‏)‏ حديث مسدد عن ابن عباس من رواية أبى داود‏:‏ ‏(‏أن نبى الله كان مريضًا‏)‏ ولذلك طاف راكبًا، وعلى هذا تأوله البخارى، ولذلك ترجم لحديث ابن عباس باب‏:‏ المريض يطوف راكبًا، وذكر معه حديث أم سلمة، وأنه عليه السلام إنما أباح لها الطواف راكبة لشكواها‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ وأجمع أهل العلم على جواز طواف المريض على الدابة ومحمولا، إلا عطاء روى عنه فيها قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ أن يطاف به، والآخر‏:‏ أن يستأجر من يطوف عنه، وقد تقدم قول من أجاز طواف الصحيح راكبًا لغير عذر فى باب التكبير عند الركن، واختلافهم فى الطواف راكبًا لغير عذر‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفيه أنه لا يجب أن يطوف أحد بالبيت فى وقت صلاة الجماعة إلا من وراء الناس، ولا يطوف بين المصلين وبين البيت فيشغل الإمام والناس ويؤذيهم، وفيه‏:‏ أن ترك أذى المسلم أفضل من صلاة الجماعة، ومثله قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏من أكل من هذه الشجرة فلا يقربن مسجدنا‏)‏‏.‏

باب سِقَايَةِ الْحَاجِّ

- فيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، اسْتَأْذَنَ الْعَبَّاسُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَبِيتَ بِمَكَّةَ لَيَالِىَ مِنًى مِنْ أَجْلِ سِقَايَتِهِ، فَأَذِنَ لَهُ‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، أَنَّ النَّبِىّ عليه السَّلام جَاءَ إِلَى السِّقَايَةِ فَاسْتَسْقَى، فَقَالَ الْعَبَّاسُ‏:‏ يَا فَضْلُ، اذْهَبْ إِلَى أُمِّكَ فَأْتِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِشَرَابٍ مِنْ عِنْدِهَا، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏اسْقِنِى‏)‏، قَالَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ أَيْدِيَهُمْ فِيهِ، قَالَ‏:‏ ‏(‏اسْقِنِى‏)‏، فَشَرِبَ مِنْهُ، ثُمَّ أَتَى زَمْزَمَ، وَهُمْ يَسْقُونَ وَيَعْمَلُونَ فِيهَا، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏اعْمَلُوا فَإِنَّكُمْ عَلَى عَمَلٍ صَالِحٍ‏)‏، ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏(‏لَوْلا أَنْ تُغْلَبُوا لَنَزَلْتُ حَتَّى أَضَعَ الْحَبْلَ عَلَى هَذِهِ، يَعْنِى عَاتِقَهُ‏)‏‏.‏

قال جماعة من أهل السير‏:‏ كانت السقاية للعباس مكرمة، يسقى الناس نبيذ التمر، فأقرها النبى عليه السلام فى الإسلام، وروى عن طاوس قال‏:‏ شُرْبُ نبيذ السقاية من تمام الحج، وقال عطاء‏:‏ لقد أدركت هذا الشراب، وإن الرجل ليشربه فتلتزق شفتاه من حلاوته، فلما ذهب الخزنة وَوَلِيَهُ العبيد تهاونوا بالشراب واستخفوا به، وروى ابن جريج عن نافع، أن ابن عمر لم يكن يشرب من النبيذ فى الحج‏.‏

وروى الطبرى حديث ابن عباس فى قصة السقاية أتم مما ذكرها البخارى فقال‏:‏ حدثنا أبو كريب، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن يزيد بن أبى زياد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال‏:‏ ‏(‏لما طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى العباس وهو فى السقاية فقال‏:‏ ‏(‏اسقونى‏)‏، قال العباس‏:‏ إن هذا قد مرث، أفلا نسقيك مما فى بيوتنا‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏لا، ولكن اسقونى مما شرب الناس‏)‏، فأتى به فذاقه فقطب، ثم دعا بماء فكسره، ثم قال‏:‏ ‏(‏إذا اشتد نبيذكم فاكسروه بالماء‏)‏‏.‏

فاستدل أهل الكوفة بهذا الخبر على جواز شرب المسكر، قالوا‏:‏ وقد روى عن عمر وعلى مثل ذلك‏.‏

قال الطبرى‏:‏ فيقال لهم‏:‏ إن تقطيبه منه لم يكن لأجل أنه كان مسكرًا، ولا أن قوله‏:‏ ‏(‏إذا اشتد نبيذكم فاكسروا بالماء‏)‏ أن معناه‏:‏ إذا اشتد فصار يسكر شرب كثيره؛ لأن ذلك لو كان معناه لكان ذلك إباحة منه عليه السلام شرب الخمر إذا صب عليه الماء؛ لأن الخمر لا تصير حلالا بصب الماء عليها، بل تفسد الماء الذى يخالطها ويزول عن حد الطهارة‏.‏

فدل أن تقطيبه منه عليه السلام إنما كان من حموضته لا من إسكاره، وأن قوله‏:‏ ‏(‏إذا رابكم منه شىء‏)‏‏.‏

يعنى إذا خفتم تغييره إما إلى حموضة، وإما إلى إسكار، فاكسروه قبل تغييره إلى ذلك؛ كى لا يفسد عليكم، وهذا من أدل الدليل على تحريم شرب ما أسكر كثيره؛ لأنه أمر بكسره بالماء إذا صار إلى حد يريب شاربه، فلو حل شربه بعدما يصير مسكرًا لم يأمر بعلاجه بالماء قبل مصيره مسكرًا، بل كان يقول عليه السلام‏:‏ إذا رابكم منه شىء فانتفعوا به واشربوه، ولا تكسروه‏.‏

وإنما أمر بكسره؛ لأنه كان قد بدت فيه الاستحالة إلى الخَلِّية بما حدث فيه من الفساد والحموضة، وذلك موجود فى الأشربة التى تنتقل إلى الحموضة قبل دخول الحال التى تصير بها خمرًا، فكسره بالماء ليهون عليه شربه، ومثل هذا المعنى ما روى عن عمر وعلى فى ذلك، حدثنا الربيع بن سليمان، حدثنا ابن وهب، عن أسامة بن زيد، أنه سمع نافعًا يقول‏:‏ إن عمر قال ليرفأ‏:‏ اذهب إلى إخواننا الثقفيين فالتمس لنا عندهم شرابًا، فأتاهم فقالوا‏:‏ ما عندنا إلا هذه الإداوة وقد تغيرت، فدعا بها عمر فذاقها، فقبض وجهه، ثم دعا بالماء فصب عليه فشرب‏.‏

قال نافع‏:‏ والله ما قبض وجهه إلا أنها تخللت‏.‏

قال ابن وهب‏:‏ وحدثنا عمرو بن الحارث، أن سلام بن حفص أخبره، أن زيد بن أسلم، أخبره أن أصحاب النبى عليه السلام كانوا إذا حمض عليهم النبيذ كسروه بالماء‏.‏

وروى إسماعيل بن أبى خالد عن قيس قال‏:‏ حدثنا عتبة بن فرقد قال‏:‏ دعا عمر بعس من نبيذ قد كاد يكون خلا، فقال لى‏:‏ اشرب، فأخذته فجعلت لا أستطيع شربه، فأخذه من يدى فشرب حتى قضى حاجته‏.‏

قال المهلب‏:‏ وإنما أذن النبى صلى الله عليه وسلم للعباس فى المبيت عن منى، ولم يوجب عليه الهدى من أجل السقاية؛ لأنها عمل من أعمال الحج، ألا ترى قوله عليه السلام إذ ورد زمزم وهم يسقون‏:‏ ‏(‏اعملوا فإنكم على عمل صالح‏)‏ وقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏لولا أن تغلبوا لنزلت‏)‏ يعنى‏:‏ لنزلت لاستقاء الماء، فهذه ولاية من النبى عليه السلام للعباس وآله السقاية، وإنما خشى أن تتخذها الملوك سنة يغلبون عليها من وليها من ذرية العباس‏.‏

باب مَا جَاءَ فِى زَمْزَمَ

- فيه‏:‏ أَبُو ذَرٍّ، قَالَ، عليه السَّلام‏:‏ ‏(‏فُرِجَ سَقْفِى، وَأَنَا بِمَكَّةَ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ، فَفَرَجَ صَدْرِى، ثُمَّ غَسَلَهُ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ جَاءَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً وَإِيمَانًا، فَأَفْرَغَهَا فِى صَدْرِى، ثُمَّ أَطْبَقَهُ، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِى، فَعَرَجَ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، قَالَ‏:‏ سَقَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ زَمْزَمَ، فَشَرِبَ وَهُوَ قَائِمٌ‏.‏

فَحَلَفَ عِكْرِمَةُ مَا كَانَ يَوْمَئِذٍ إِلا عَلَى بَعِيرٍ‏.‏

قال المهلب‏:‏ فيه أن شرب ماء زمزم من سنن الحج لفضله وبركته، وقد قال ابن عباس‏:‏ إن ماء زمزم لما شرب له، وقال مجاهد‏:‏ إن شربته تريد الشفاء شفاك الله، وإن شربته تريد أن تقطع ظمأك قطعه الله، وإن شربته تريد أن يشبعك أشبعك الله، وهى هزمة جبريل، وسقيا الله إسماعيل‏.‏

وقال وهب بن منبه‏:‏ تجدها فى كتاب الله‏.‏

يعنى‏:‏ زمزم شراب الأبرار، وطعام طعم، وشفاء من سقم، ولا تُنْزَحُ ولا تُذَمُّ، من شرب منها حتى يتضلع أحدثت له شفاء، وأخرجت منه داء‏.‏

وروى ابن جريج عن نافع عن ابن عمر أنه كان لا يشرب منها فى الحج، ومعنى ذلك أنه كان قد شرب منه ولم يواظب على شربه؛ لئلا يظن به أنه كان يرى شربه من الفرض اللازم، ولا يجوز أن يتأول عليه ترك شيئًا فعله النبى عليه السلام لأنه لم يكن أحد أتبع منه لآثار رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ ينبغى أن يأخذ الدلو، ويستقبل القبلة، ويدعو الله، ثم يشرب ويتنفس ثلاث مرات، ويتضلع منها، فإنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏إن آية ما بيننا وبين المنافقين أنهم لا يتضلعون من زمزم‏)‏‏.‏

قال معمر عن الزهرى‏:‏ إن عبد المطلب لما انبط ماء زمزم بنى عليها حوضًا، فطفق هو وابنه الحارث ينزعان، فيملآن ذلك الحوض فيشرب فيه الحاج، فيكسره أناس من حسدة قريش بالليل، ويصلحه عبد المطلب حين يصبح، فلما أكثروا إفساده دعا عبد المطلب ربه، فأرى فى المنام فقيل له‏:‏ قل‏:‏ اللهم إنى لا أحلها لمغتسل، ولكن هى لشارب حِل وبِل، ثم كفيتهم‏.‏

فقام فنادى بالذى أرى فلم يكن أحد يفسد عليه حوضه بالليل إلا رمى بداء فى جسده، ثم تركوا له حوضه وسقايته، قال سفيان‏:‏ حِل بِل محل‏.‏

باب طَوَافِ الْقَارِنِ

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ، خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِى حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَأَهْلَلْنَا بِعُمْرَةٍ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏(‏مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْىٌ فَلْيُهِلَّ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، ثُمَّ لا يَحِلُّ حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُمَا‏)‏، فَقَدِمْتُ مَكَّةَ وَأَنَا حَائِضٌ، فَلَمَّا قَضَيْنَا حَجَّنَا، أَرْسَلَنِى مَعَ عَبْدِالرَّحْمَنِ إِلَى التَّنْعِيمِ، فَاعْتَمَرْتُ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏هَذِهِ مَكَانَ عُمْرَتِكِ‏)‏، فَطَافَ الَّذِينَ أَهَلُّوا بِالْعُمْرَةِ، ثُمَّ حَلُّوا ثُمَّ طَافُوا طَوَافًا آخَرَ بَعْدَ أَنْ رَجَعُوا مِنْ مِنًى، وَأَمَّا الَّذِينَ جَمَعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَإِنَّمَا طَافُوا طَوَافًا وَاحِدًا‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْنَ عُمَرَ، إِنْ حِيلَ بَيْنِى وَبَين الْبَيْتَ أَفْعَلُ كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏(‏أُشْهِدُكُمْ أَنِّى قَدْ أَوْجَبْتُ مَعَ عُمْرَتِى حَجًّا‏)‏، ثُمَّ قَدِمَ، فَطَافَ لَهُمَا طَوَافًا وَاحِدًا‏.‏

- وفيه‏:‏ خبر آخر عن ابْن عُمَرَ، وَأَهْدَى هَدْيًا، وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ، فَلَمْ يَنْحَرْ وَلَمْ يَحِلَّ مِنْ شَىْءٍ حَرُمَ مِنْهُ، وَلَمْ يَحْلِقْ، وَلَمْ يُقَصِّرْ، حَتَّى كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ فَنَحَرَ، وَحَلَقَ، وَرَأَى أَنْ قَدْ قَضَى طَوَافَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ بِطَوَافِهِ الأوَّلِ، ثُمَّ قام لهما طوافًا واحدًا‏.‏

اختلف العلماء فى طواف القارن، فروى عن ابن عمر وجابر بن عبد الله أنه يجزئه طواف واحد وسعى واحد، وروى ذلك عن عطاء وطاوس والحسن، وهو قول مالك والشافعى وأحمد وإسحاق وأبى ثور، وحجتهم أحاديث هذا الباب‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ على القارن طوافان وسعيان‏.‏

روى ذلك عن على وابن مسعود، وعن الشعبى وابن أبى ليلى، وإليه ذهب الثورى وأبو حنيفة والأوزاعى، واحتجوا بأن العمرة إذا أفردها لزمته أفعالها، فلم يكن ضمها إلى الحج بموجب لسقوط جميع أفعالها، دليله التمتع‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ فيقال لهم‏:‏ هذا ينتقض بالحلق؛ لأن المتمتع لما كان عليه حِلاقان، كان عليه طوافان، ولما كان القارن يكفيه حلق واحد كفاه طواف واحد، فإن قالوا‏:‏ قياسكم الطواف على الحلق لا يسلم؛ لأن المستحق فى الحلق عن كل إحرام مقدار الربع فمتى حلق جميع رأسه بعد الحلق، فيقوم مقام الحلق الآخر عند العجز، فيقال لهم‏:‏ ما تقولون إن اقتصر القارن على حلق ربع رأسه ولم يتجاوزه، ولم يجر الموسى على رأسه، هل يجزئه أو يحتاج إلى زيادة ربع آخر، فإن قلتم هذا، فليس هو مذهبكم، وإن كفاه واحد، فقد ثبت ما قلناه، وأيضًا فإن القارن إن قتل صيدًا واحدًا فعليه جزاء واحد‏.‏

قال غيره‏:‏ والحجة للكوفيين لازمة بحديث عائشة وابن عمر؛ لأنهم يأخذون بحديث عائشة فى رفض العمرة مع احتماله فى ذلك للتأويل، ويتركونه فى طواف القارن، وهو لا يحتمل التأويل، قال ابن المنذر‏:‏ والرواية عن على لا تثبت؛ لأن راويها أبو نصر عن على، وأبو نصر مجهول، ولو كان ثابتًا لكانت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى‏.‏

وذكر عبد الرازق عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن على قال‏:‏ ‏(‏القارن يجزئه طواف واحد وسعى واحد‏)‏ بخلاف رواية أهل العراق عنه، وقول ابن عمر‏:‏ ‏(‏إذًا أصنع كما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم‏)‏ يعنى‏:‏ حين صُدَّ عليه السلام عام الحديبية، فَحَلَق ونَحَر وحَلَّ، فلم يصد ابن عمر فقران الحج إلى العمرة، وكان عمله لهما واحدًا وطوافًا واحدًا، وقد احتج أبو ثور لذلك فقال‏:‏ لما لم يجز أن يجمع بين عملين إلا الحج والعمرة فأجزنا ومن خالفنا لهما سفرًا واحدًا، وإحرامًا واحدًا، وكذلك التلبية؛ كان كذلك يجزئ عنهما طواف واحد وسعى واحد‏.‏

باب الطَّوَافِ عَلَى وُضُوءٍ

- فيه‏:‏ عُرْوَة، عن عَائِشَةَ، حَجَّ النَّبِىُّ عليه السَّلام فَأَوَّلُ شَىْءٍ بَدَأَ بِهِ حِينَ قَدِمَ أَنَّهُ تَوَضَّأَ، ثُمَّ طَافَ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةً، ثُمَّ حَجَّ أَبُو بَكْرٍ، فَكَانَ أَوَّلَ شَىْءٍ بَدَأَ بِهِ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةً، ثُمَّ عُمَرُ كذَلِكَ‏.‏‏.‏‏.‏

وذكر الحديث‏.‏

هذا الحديث حجة لمن اختار الإفراد بالحج وأن ذلك كان عمل النبى عليه السلام وأصحابه بعده، لم يعدل أحد منهم إلى تمتع ولا قران؛ لقولها‏:‏ ‏(‏ثم لم تكن عمرة‏)‏‏.‏

وفيه ما ترجم به أن سنة الطواف أن يكون على طهارة، واتفق جمهور العلماء على أنه لا يجزئ بغير طهارة كالصلاة، وخالف ذلك أبو حنيفة فقال‏:‏ إن طاف بغير طهارة، فإن أمكنه إعادة الطواف أعاده، وإن رجع إلى بلاده جبره بالدم‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ والحجة للجماعة قول عائشة‏:‏ ‏(‏أول شىء بدأ به النبى عليه السلام أنه توضأ ثم طاف بالبيت‏)‏ وفعله على الوجوب إلا أن تقوم دلالة، وأيضًا فإن فعله خرج مخرج البيان لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 29‏]‏؛ لأن الطواف مجمل يحتاج إلى بيان صفته؛ لأنه يقتضى طوفة واحدة‏.‏

وقد قال ابن عباس‏:‏ ‏(‏إن الطواف بالبيت صلاة، إلا أن الله تعالى أباح فيه المنطق‏)‏ وقد يكون فى الشرع صلاة لا ركوع فيها ولا سجود كصلاة الجنازة، فإن قيل‏:‏ فينبغى أن يكون لها تحريم وتسليم، قيل‏:‏ ليس كل ما كان صلاة يحتاج إلى ذلك؛ لأن كثيرًا من الناس من يقول فى سجود السهو أنه صلاة ولا يحتاج إلى ذلك، وكذلك سجود التلاوة، ولنا أن نستدل بحديث صفية لما حاضت فقال‏:‏ ‏(‏أحابستنا هى‏؟‏ فلما قيل‏:‏ إنها قد أفاضت، قال‏:‏ فلا إذاَ‏)‏‏.‏

فلو كان الدم ينوب مناب طوافها بغير طهارة لكان عليه السلام لا يحتاج أن يقيم هو وأصحابه إلى أن تطهر ثم تطوفه، فإن قيل‏:‏ إن الطواف ركن لا يصح الحج إلا به فلا يحتاج إلى طهارة كالوقوف بعرفة، قيل‏:‏ لما كان يعقب كل أُسْبُوع من الطواف ركعتان، لا فصل بينه وبينهما، وجب أن يكون الطائف متوضئًا لتتصل صلاته بطوافه، والوقوف بعرفة لا صلاة بأثره، فافترقا‏.‏

واختلفوا فيمن انتقض وضوءه وهو فى الطواف، فقال عطاء ومالك‏:‏ يتوضأ ويستأنف الطواف، قال مالك‏:‏ وهو بخلاف السعى بين الصفا والمروة لا يقطع عليه ذلك ما أصابه من انتقاض وضوئه، وقال النخعى‏:‏ يبنى‏.‏

وهو قول الشافعى وأحمد وإسحاق، إلا أن الشافعى قال‏:‏ إن تطاول استأنف‏.‏

وقال مالك‏:‏ إن كان تطوعًا فأراد إتمامه توضأ واستأنف، وإن لم يرد إتمامه تركه‏.‏

وقد تقدم بعض ما فى هذا الحديث فى باب‏:‏ من طاف بالبيت إذا قدم مكة، وسيأتى شىء منه فى باب‏:‏ متى يحل المعتمر بعد هذا إن شاء الله‏.‏

باب وُجُوبِ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَجُعِلَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ

- فيه‏:‏ عُرْوَة‏:‏ سَأَلْتُ عَائِشَةَ أَرَأَيْتِ قَوْلَ اللَّهِ تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 158‏]‏، فَوَاللَّهِ مَا عَلَى أَحَدٍ جُنَاحٌ أَنْ لا يَطُوفَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، قَالَتْ‏:‏ بِئْسَ مَا قُلْتَ يَا ابْنَ أُخْتِى، إِنَّ هَذِهِ لَوْ كَانَتْ كَمَا أَوَّلْتَهَا عَلَيْهِ كَانَتْ لا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ لا يَتَطَوَّفَ بِهِمَا، وَلَكِنَّهَا أُنْزِلَتْ فِى الأنْصَارِ كَانُوا قَبْلَ أَنْ يُسْلِمُوا يُهِلُّونَ لِمَنَاةَ الطَّاغِيَةِ الَّتِى كَانُوا يَعْبُدُونَهَا عِنْدَ الْمُشَلَّلِ، فَكَانَ مَنْ أَهَلَّ يَتَحَرَّجُ أَنْ يَطُوفَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَلَمَّا أَسْلَمُوا سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ، قَالُوا‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا كُنَّا نَتَحَرَّجُ أَنْ نَطُوفَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ‏}‏ الآية، قَالَتْ عَائِشَةُ‏:‏ وَقَدْ سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا، فَلَيْسَ لأحَدٍ أَنْ يَتْرُكَ الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ أَخْبَرْتُ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَبْدِالرَّحْمَنِ، فَقَالَ‏:‏ إِنَّ هَذَا لَعِلْمٌ مَا كُنْتُ سَمِعْتُهُ، وَلَقَدْ سَمِعْتُ رِجَالا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَذْكُرُونَ أَنَّ النَّاسَ إِلا مَنْ ذَكَرَتْ عَائِشَةُ مِمَّنْ كَانَ يُهِلُّ بِمَنَاةَ، كَانُوا يَطُوفُونَ كُلُّهُمْ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ فِى الْقُرْآنِ، قَالُوا‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، كُنَّا نَطُوفُ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَإِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ فَلَمْ يَذْكُرِ الصَّفَا، فَهَلْ عَلَيْنَا مِنْ حَرَجٍ أَنْ نَطَّوَّفَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ‏؟‏ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ‏}‏ الآية، قَالَ أَبُو بَكْرٍ‏:‏ فَأَسْمَعُ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِى الْفَرِيقَيْنِ كِلَيْهِمَا فِى الَّذِينَ كَانُوا يَتَحَرَّجُونَ أَنْ يَطُوفُوا بِالْجَاهِلِيَّةِ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَالَّذِينَ يَطُوفُونَ، ثُمَّ تَحَرَّجُوا أَنْ يَطُوفُوا بِهِمَا فِى الإسْلامِ مِنْ أَجْلِ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِالطَّوَافِ بِالْبَيْتِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الصَّفَا حَتَّى ذَكَرَ ذَلِكَ بَعْدَ مَا ذَكَرَ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ‏.‏

قال المؤلف‏:‏ ذكر إسماعيل بن إسحاق عن الشعبى قال‏:‏ كان على الصفا وثن يقال له‏:‏ ‏(‏يساف‏)‏، وعلى المروة وثن يقال له‏:‏ ‏(‏نائلة‏)‏، فكان المشركون يطوفون بينهما، فلما كان الإسلام قال ناس‏:‏ ‏(‏يا رسول الله، إن أهل الجاهلية كانوا يطوفون بين الصفا والمروة للوثنين الذين كان عليهما، وليسا من شعائر الله‏.‏

فنزلت هذه الآية‏)‏‏.‏

واختلف العلماء فى وجوب السعى بين الصفا والمروة، فروى عن ابن مسعود، وأُبى بن كعب، وابن عباس أنه غير واجب، وقال أنس ابن مالك وابن الزبير‏:‏ هو تطوع‏.‏

وروى مثله عن ابن سيرين، وقال الثورى والكوفيون‏:‏ هو واجب إلا أنه ينوب عند الدم‏.‏

وروى مثله عن عطاء والحسن وقتادة، وقالت عائشة‏:‏ هو فرض‏.‏

وبه قال مالك والشافعى وأحمد وإسحاق وأبو ثور، ويأمرون من بقى عليه منه شىء بالرجوع إليه من بلده، فإن كان وطأ النساء قبل أن يرجع كان عليه إتمام حجه أو عمرته، وحج قابل والهدى‏.‏

واحتج من لم يره واجبًا بقراءة من قرأ‏:‏ ‏(‏فلا جناح عليه ألا يطوف بهما‏)‏ قالوا‏:‏ فعلى هذه القراءة لا جناح عليه فى ترك السعى كما قالت عائشة‏:‏ واحتج بعض أهل هذه المقالة أيضًا بقراءة الجماعة وقالوا‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 158‏]‏ يقتضى أن يكون السعى مباحًا لا واجبًا، كقوله‏:‏ ‏(‏فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 101‏]‏، والقصر مباح لا واجب، واحتجوا بقول عائشة فى هذا الحديث‏:‏ ‏(‏وقد سَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما‏)‏ فمن قال‏:‏ إن السعى فرض، فقد خالف ما تقتضيه الآية، وخالف لفظ الحديث‏:‏ وما سُمى سُنَّة فليس بفريضة، فهى سنة مؤكدة لا ينبغى تركها‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ فيقال لهم‏:‏ إن عائشة قد ردت على عروة تاويل المخالف فى الآية وقالت‏:‏ بئس ما قلت يا ابن أختى، إن هذه لو كانت كما تأولتها، لكانت‏:‏ ‏(‏فلا جناح عليه ألا يطوف بهما‏)‏‏.‏

وإنما نزلت فى الأنصار الذين كانوا يتحرجون فى الجاهلية أن يطوفوا بينهما، وفى الذين كانوا يطوفون فى الجاهلية ثم تحرجوا أن يطوفوا فى الإسلام، وهذا يبطل تأويلهم؛ لأن عائشة علمت سبب الآية وضبطت هذا المعنى الجليل، والصاحب إذا روى القصة مُفَسَّرة فلا تفسير لأحد معه‏.‏

وقال غيره‏:‏ لا حجة لمن تعلق بقول عائشة ‏(‏وقد سَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما‏)‏؛ لأنه قد صح من مذهبها أن ذلك فريضة، والفرائض تثبت بالسنة كما تثبت بالقرآن؛ لأن الله قد فرض طاعة رسوله، فكل ما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم من فرض أو سنة فسائغ أن يقال فيه‏:‏ سَنَّةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه فرض عُلم من طريق السنة، وأما قراءة من قرأ‏:‏ ‏(‏فلا جناح عليه ألا يطوف بهما‏)‏ فلا حجة فيها لشذوذها، وأنه لم يقرأ بها أحد من أئمة القراء‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ وقد يجوز أن يرجع معنى القراءتين جميعًا إلى معنى واحد؛ لأن العرب قد تصل ب ‏(‏لا‏)‏ وتزيدها كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 1، 2‏]‏، وكقوله‏:‏ ‏(‏فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 75‏]‏، و‏)‏ فَلاَ أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏ 40‏]‏ فى معنى أقسم بيوم القيامة، وأقسم بكل ما ذكر، و‏)‏ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 12‏]‏ أى‏:‏ ما منعك أن تسجد، فيحتمل قول عائشة لعروة‏:‏ كلا لو كانت كما تقول لكانت‏:‏ ‏(‏فلا جناح عليه ألا يطوف بهما‏)‏ على معنى الصلة التى يرجع بها إلى معنى قوله‏:‏ ‏(‏فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 158‏]‏ وفى حديث عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سَنَّ الطواف بينهما، وأن قوله‏:‏ ‏(‏فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا ‏(‏إنما هو على إباحة الطواف بينهما الذى كانوا يتحرجونه، ثم سَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما، فصار من سنته التى ليس لأحد التخلف عنها مع ما تقدم من قوله تعالى فيهما أن جعلهما من شعائره، والشعائر‏:‏ العلامات، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 32‏]‏‏.‏

وقال عليه السلام حين طاف بهما‏:‏ ‏(‏نبدأ بما بدأ الله به‏)‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏(‏خذوا عنى مناسككم، لا أدرى لعلى لا ألقاكم بعد عامى هذا‏)‏‏.‏

وطاف بينهما، ودل حديث حماد بن سلمة عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أنها قالت‏:‏ ‏(‏ما تمت حجة أحد ولا عمرته لم يطف بين الصفا والمروة‏)‏ أن ذلك مما لا يكون مأخوذًا من جهة الرأى، وإنما يؤخذ من جهة التوقيف، وقولها ذلك يدل على وجوب الصفا والمروة فى الحج والعمرة جميعًا‏.‏

باب مَا جَاءَ فِى السَّعْىِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ

وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ‏:‏ السَّعْىُ مِنْ دَارِ بَنِى عَبَّادٍ إِلَى زُقَاقِ بَنِى أَبِى حُسَيْنٍ‏.‏

- فيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، كَانَ عليه السَّلام إِذَا طَافَ الطَّوَافَ الأوَّلَ، خَبَّ ثَلاثًا وَمَشَى أَرْبَعًا، وَكَانَ يَسْعَى بَطْنَ الْمَسِيلِ إِذَا طَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَقُلْتُ لِنَافِعٍ‏:‏ أَكَانَ عَبْدُاللَّهِ يَمْشِى إِذَا بَلَغَ الرُّكْنَ الْيَمَانِىَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ لا، إِلا أَنْ يُزَاحَمَ عَلَى الرُّكْنِ، فَإِنَّهُ كَانَ لا يَدَعُهُ حَتَّى يَسْتَلِمَهُ‏.‏

- وسَئل ابْنَ عُمَرَ، عَنْ رَجُلٍ طَافَ بِالْبَيْتِ فِى عُمْرته، وَلَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، أَيَأْتِى امْرَأَتَهُ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ قَدِمَ النَّبِىُّ عليه السَّلام فَطَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا، وَصَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ، وَطَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعًا‏:‏ ‏(‏لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ‏(‏وَقَالَ جَابِرَ كذلك، فَقَالَ‏:‏ لا يَقْرَبَنَّهَا حَتَّى يَطُوفَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ‏.‏

وقال أيضًا ابْن عُمَر‏:‏ إن النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم سعى بين الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ‏.‏

- وفيه‏:‏ عَاصِم، قَالَ‏:‏ قُلْتُ لأنَسِ‏:‏ أَكُنْتُمْ تَكْرَهُونَ السَّعْىَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ نَعَمْ، لأنَّهَا كَانَتْ مِنْ شَعَائِرِ الْجَاهِلِيَّةِ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ‏:‏ ‏(‏إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ‏}‏ الآية‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، إِنَّمَا سَعَى الرسول صلى الله عليه وسلم بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ؛ لِيُرِىَ الْمُشْرِكِينَ قُوَّتَهُ‏.‏

قال المؤلف‏:‏ معنى هذا الباب كالذى قبله، وفيه بيان صفة السعى وأنه شىء معمول به غير مرخَّص فيه؛ ألا ترى أن ابن عمر حين ذكره قال‏:‏ ‏(‏وقد كان لكم فى رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة‏)‏ وذكر ابن عباس فى حديث هذا الباب علة السعى فى الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة، وأن النبى عليه السلام فعله لُيِرىَ المشركين قوته؛ لأنهم قالوا‏:‏ إن حُمَّى يثرب أنهكتهم، فكان عليه السلام يرمل فى طوافه بالبيت مقابل المسجد ومقابل السوق موضع جلوسهم وأنديتهم، فإذا توارى عنهم مشى، ذكره أهل السير، وقد ذكرته فى باب‏:‏ كيف كان بدء الرَّمَل، فالسنة التزام الخبّ فى الثلاثة أشواط فى الطواف بالبيت، تبركًا بفعله عليه السلام وسنته، وإن كانت العلة قد ارتفعت فذلك من تعظيم شعائر الله‏.‏

وقد ذكر البخارى فى ‏(‏كتاب الأنبياء‏)‏ عن ابن عباس علّة أخرى للسعى والهرولة بين الصفا والمروة؛ فقال ابن عباس‏:‏ ‏(‏انطلقت أم إسماعيل إلى الصفا فوجدته أقرب جبل فى الأرض إليها، فقامت عليه تنظر هل ترى أحدًا، فلم تر، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادى رفعت طرف درعها، فسعت سعى المجهود حتى جاوزت الوادى، ثم أتت المروة فقامت عليها ونظرت هل ترى أحدًا، فلم تره، ففعلت ذلك سبع مرات، قال ابن عباس‏:‏ قال النبى عليه السلام‏:‏ ‏(‏فلذلك سعى الناس بينهما‏)‏‏.‏

فبيّن فى هذا الحديث أن سبب كونها سبعة أطواف، وسبب السعى فيها فعل أم إسماعيل عليهم السلام ذلك‏.‏

وذكر ابن أبى شيبة قال‏:‏ حدثنا عبد العلى، عن الجريرى، عن أبى الطفيل قال‏:‏ قلت لابن عباس‏:‏ ‏(‏ألا تحدثنى عن الطواف راكبًا بين الصفا والمروة، فإنهم يزعمون أنه سنة‏.‏

فقال‏:‏ صدقوا وكذبوا، فقلت‏:‏ وما صدقوا وكذبوا‏؟‏ قال‏:‏ صدقوا، إن الطواف بين الصفا والمروة سنة، وكذبوا فى أن الركوب فيه سنة، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفا والمروة فلما سمع به أهل مكة خرجوا ينظرون إليه، حتى خرجت العواتق، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدفع أحَدًا عنه، فأكبُّوا عليه، فلما رأى ذلك دعا براحلته فركب ثم طاف على بعيره ليسمعوا كلامه، ولا تناله أيديهم، ويروا مكانه‏)‏‏.‏

واختلفوا فى ذلك، فكانت عائشة تكره السعى بينهما راكبًا، وكرهه عروة بين الزبير، وهو قول أحمد وإسحاق، وقال أبو ثور‏:‏ لا يجزئه وعليه أن يعيد‏.‏

وقال الكوفيون‏:‏ إن كان بمكة أعاد ولا دَمَ عليه، وإن رجع إلى الكوفة فعليه دم‏.‏

ورخصت فيه طائفة، روى عن أنس بن مالك أنه طاف على حمار، وعن عطاء ومجاهد مثله‏.‏

وقال الشافعى‏:‏ يجزئه ولا إعادة عليه إن فعل، وحجة من أجاز ذلك فعل النبى عليه السلام وحجة من كرهه أنه ينبغى امتثال فعل أم إسماعيل فى ذلك، وأن ركوب النبى عليه السلام راحلته فيه كان للعلة التى ذكرها ابن عباس فى الحديث‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ وأما قول أنس‏:‏ إنهم كانوا يكرهون الطواف بهما لأنهما من شعائر الجاهلية حتى نزلت الآية، فقد كان ما سواهما من الوقوف بعرفة والمزدلفة والطواف بالبيت من شعائر الحج فى الجاهلية أيضًا، فلما جاء الإسلام ذكر الله ذلك فى كتابه، فصار من شعائر الحج فى الإسلام‏.‏

فإن قال قائل‏:‏ فإن الله قال بعقب قوله‏:‏ ‏{‏فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 158‏]‏‏)‏ وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ‏}‏‏.‏

فدل أن الطواف بهما فى الحج والعمرة تطوع، قيل له‏:‏ لو كان كما وصفت لكان الطواف بينهما قربة، وكان للناس أن يتطوعوا بالطواف بينهما، وإن لم يكونوا حاجين ولا معتمرين، وقد أجمع المسلمون على أن الطواف بينهما فى غير الحج والعمرة ليس مما يتقرب به العباد إلى الله ولا يتطوعون به، وأن الطواف بينهما لا قربة فيه إلا فى حج أو عمرة، فَدَلَّ ذلك على أن قوله‏:‏ ‏(‏وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا ‏(‏لا يرجع إلى الطواف بين الصفا والمروة، وإنما يرجع إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 158‏]‏، أى من تطوع بحج أو عمرة فإن الله شاكر عليم‏.‏

باب تَقْضِى الْحَائِضُ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا إِلا الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ

وَإِذَا سَعَى عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ - فيه‏:‏ عَائِشَةَ، قَالَتْ‏:‏ قَدِمْتُ مَكَّةَ، وَأَنَا حَائِضٌ، وَلَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ وَلا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، قَالَتْ‏:‏ فَشَكَوْتُ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ‏:‏ ‏(‏افْعَلِى كَمَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لا تَطُوفِى بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرِ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ جَابِر، أَهَلَّ الرسول صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ بِالْحَجِّ، وَلَيْسَ مَعَ أَحَدٍ مِنْهُمْ هَدْىٌ غَيْرَ النَّبِىِّ عليه السَّلام وَطَلْحَةَ، وَقَدِمَ عَلِىٌّ مِنَ الْيَمَنِ، وَمَعَهُ هَدْىٌ‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث، وَحَاضَتْ عَائِشَةُ، فَنَسَكَتِ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا غَيْرَ أَنَّهَا لَمْ تَطُفْ بِالْبَيْتِ، فَلَمَّا طَهُرَتْ طَافَتْ بِالْبَيْتِ‏.‏

- وفيه‏:‏ حَفْصَةَ، كُنَّا نَمْنَعُ عَوَاتِقَنَا أَنْ يَخْرُجْنَ، فَقَدِمَتِ امْرَأَةٌ، فَنَزَلَتْ قَصْرَ بَنِى خَلَفٍ‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث، وَقَالَت‏:‏ سَمعت النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏لِتَخْرُجِ الْعَوَاتِقُ وَذَوَاتُ الْخُدُورِ، فَيَشْهَدْنَ الْخَيْرَ وَدَعْوَةَ الْمُؤمنين، وَتَعْتَزِلُ الْحائض الْمُصَلَّى‏)‏، فَقُلْتُ‏:‏ أَالْحَائِضُ‏؟‏ فَقَالَتْ‏:‏ أَوَلَيْسَ تَشْهَدُ عَرَفَةَ وَتَشْهَدُ كَذَا وَكَذَا‏.‏

العلماء مجمعون على أن الحائض تشهد المناسك كلها غير الطواف بالبيت لقوله عليه السلام لعائشة‏:‏ ‏(‏افعلى ما يفعل الحاج غير ألا تطوفى بالبيت حتى تطهرى‏)‏‏.‏

فكان فى حكم الحائض كل من ليس على طهارة من جنب وغير متوضئ؛ لأن ركوع الطواف متصل به لا فصل بينه وبينه، هذه سنته‏.‏

قال المهلب‏:‏ وإنما منعت الحائض الطواف على غير طهارة؛ تنزيهًا للمسجد من النجاسات لقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 28‏]‏ ولأمره عليه السلام الحيض فى العيدين بالاعتزال للمصلى، فوجب تنزيهه عن الحائض والجنب، ومن عليه نجاسة، وأما السعى بين الصفا والمروة فلا أعلم أحدًا شرط فيه الطهارة إلا الحسن البصرة فقال‏:‏ إن ذكر أنه سعى على غير طهارة قبل أن يحل فليعد، وإن ذكر ذلك بعدما حل فلا شىء عليه‏.‏

وذكر ابن وهب عن ابن عمر أنه كان يكره السعى بينهما على غير طهارة‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ قوله عليه السلام لعائشة‏:‏ ‏(‏لفعلى ما يفعل الحاج غير ألا تطوفى بالبيت‏)‏ يبين أن ذلك جائز؛ لأنه أباح لها السعى بين الصفا والمروة بعرفة وجميع المناسك على غير طهارة، غير الطواف بالبيت خاصة‏.‏

باب الإهْلالِ مِنَ الْبَطْحَاءِ وَغَيْرِهَا لِلْمَكِّىِّ وَلِلْحَاجِّ إِذَا خَرَجَ إِلَى مِنًى

وَسُئِلَ عَطَاءٌ، عَنِ الْمُجَاوِرِ يُلَبِّى بِالْحَجِّ، قَالَ‏:‏ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُلَبِّى يَوْمَ التَّرْوِيَةِ، إِذَا صَلَّى الظُّهْرَ وَاسْتَوَى عَلَى رَاحِلَتِهِ، وَقَالَ جَابِرٍ‏:‏ قَدِمْنَا مَعَ رسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم فَأَحْلَلْنَا حَتَّى يَوْمِ التَّرْوِيَةِ، وَجَعَلْنَا مَكَّةَ بِظَهْرٍ لَبَّيْنَا بِالْحَجِّ، وَقَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ‏:‏ أَهْلَلْنَا مِنَ الْبَطْحَاءِ‏.‏

وقال عُبَيْدُ بْنُ جُرَيْجٍ لابْنِ عُمَرَ‏:‏ رَأَيْتُكَ إِذَا كُنْتَ بِمَكَّةَ أَهَلَّ النَّاسُ إِذَا رَأَوُا الْهِلالَ، وَلَمْ تُهِلَّ أَنْتَ حَتَّى يَوْمَ التَّرْوِيَةِ، فَقَالَ‏:‏ لَمْ أَرَ رسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم يُهِلُّ حَتَّى تَنْبَعِثَ بِهِ رَاحِلَتُهُ‏.‏

قال المهلب‏:‏ من أنشأ الحج من مكة فله أن يهل من بيته أو من المسجد الحرام أو من البطحاء، وهى طرف مكة، أو من حيث أحب مما دون عرفة، ذلك كله واسع؛ لأن ميقات أهل مكة منها، وليس عليه أن يخرج إلى الحِلِّ؛ لأنه خارج فى حجته إلى عرفة، فيحصل له بذلك الجمع بين الحل والحرم، وهو بخلاف منشئ العمرة من مكة، وقد ذكرنا حكمه فى باب قبل هذا‏.‏

ويستحب للمكى وللمتمتع إذا أنشأ الحج من مكة أن يُهِلا من حيث أهل ابن عمر ويوم التروية من البطحاء، وكذلك قال جابر‏.‏

قال غيره‏:‏ وأما وجه احتجاج ابن عمر بإهلال النبى عليه السلام بذى الحليفة، وهو غير مكى على من أنشأ الحج من مكة أنه يجب أن يهل يوم التروية، وهى قصة أخرى، فوجه ذلك أن النبى عليه السلام أهل من ميقاته فى حين ابتدائه فى عمل حجته، واتصل به عمله، ولم يكن بينهما مكث ينقطع به العمل، فكذلك المكى لا يهل إلا يوم التروية الذى هو أول عمله للحج، ليتصل له عمله تأسيًا برسول الله فى ذلك صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقد تابع ابن عمر على ذلك ابن عباس قال‏:‏ لا يهل أحد من أهل مكة بالحج حتى يريد الرواح إلى منى‏.‏

وبه قال عطاء، واحتج بأن أصحاب النبى عليه السلام إذ دخلوا فى حجتهم مع النبى أهلُّوا عشية التروية، حين توجهوا إلى منى، قال‏:‏ وأخبرنى أبو الزبير عن جابر أن النبى عليه السلام قال لهم فى حجته‏:‏ ‏(‏إذا أردتم أن تنطلقوا إلى منى فأهلوا، قال‏:‏ فأهللنا من البطحاء‏)‏‏.‏

وأما قول عبيد بن جريح لابن عمر‏:‏ إن أهل مكة يهلون إذا رأوا الهلال، فهو مذهب عمر بن الخطاب وابن الزبير، روى مالك، عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه أن عمر بن الخطاب قال‏:‏ ‏(‏يا أهل مكة، ما بال الناس يأتون شعثًا وأنتم مدهنون، أهلوا إذا رأيتم الهلال‏)‏ فهو على وجه الاستحباب، لأن الإهلال إنما يجب على من يتصل عمله، وليس من السنة أن يقيم المحرم فى أهله، وقد روى عن ابن عمر ما يوافق مذهب عمر‏.‏

ذكر مالك فى ‏(‏الموطا‏)‏‏:‏ أن ابن عمر كان يهل لهلال ذى الحجة، ويؤخر الطواف بالبيت والسعى بين الصفا والمروة حتى يرجع من منى، قال نافع‏:‏ أَهَلَّ ابن عمر مرة بالحج حين رأى الهلال، ومرة أخرى بعد الهلال من جوف الكعبة، ومرة أخرى حين راح إلى منى‏.‏

قال مجاهد‏:‏ فقلت لابن عمر‏:‏ أهللت فينا إهلالا مختلفًا قال‏:‏ أما أول عام فأخذت بأخذ أهل بلدى، يعنى‏:‏ المدينة، ثم نظرت فإذا أنا أدخل على أهلى حرامًا، وأخرج حرامًا، وليس كذلك نصنع، إنما كنا نهل ثم نقبل على شأننا، قلت‏:‏ فبأى شىء نأخذ‏؟‏ قال‏:‏ تحرم يوم التروية‏.‏

باب أَيْنَ يُصَلِّى الظُّهْرَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ‏؟‏

- فيه‏:‏ عَبْدِالْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ، عن أَنَس بْنَ مَالِكٍ، أَخْبِرْنِى بِشَىْءٍ عَقَلْتَهُ عَنِ رسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم أَيْنَ صَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ بِمِنًى، قُلْتُ‏:‏ فَأَيْنَ صَلَّى الْعَصْرَ يَوْمَ النَّفْرِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ بِالأبْطَحِ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ افْعَلْ كَمَا يَفْعَلُ أُمَرَاؤُكَ‏.‏

وقال مرة‏:‏ خَرَجْتُ إِلَى مِنًى يَوْمَ التَّرْوِيَةِ، فَلَقِيتُ أَنَسًا ذَاهِبًا عَلَى حِمَارٍ، فَقُلْتُ‏:‏ أَيْنَ صَلَّى النَّبِىُّ عليه السَّلام الْيَوْمَ الظُّهْرَ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ انْظُرْ حَيْثُ يُصَلِّى أُمَرَاؤُكَ فَصَلِّ‏.‏

قال المهلب‏:‏ الناس فى سعة من هذا، يخرجون متى أحبوا ويصلون حيث أمكنهم، ولذلك قال أنس‏:‏ صل حيث تصل أمراؤك‏.‏

والمستحب من ذلك ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، صلى الظهر والعصر بمنى، وهو قول مالك، والثورى، وأبى حنيفة، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور، وعادة أهل مكة أن يخرجوا إلى مِنى بعد صلاة العشاء، وكانت عائشة تخرج ثلث الليل‏.‏

وهذا يدل على التوسعة، وكذلك المبيت عن منى ليلة عرفة ليس فيه حرج إذا وافى عرفة الوقت الذى يَجِبُ، ولا فيه جبر، كما يجبر ترك المبيت بها بعد الوقوف أيام رمى الجمار، وبه قال مالك وأبو حنيفة والشافعى وأبو ثور‏.‏

والمستحب فى ذلك أن يصلى الظهر والعصر بمنى، ثم يصلى المغرب والعشاء والصبح بها، ثم يدفع بعد طلوع الشمس إلى عرفة فيصلى فيها الظهر والعصر، ثم يطلع إلى جبال الرحمة يدعو إلى أن تغرب الشمس، فإذا غربت دفع مع الإمام فيصلى المغرب والعشاء بالمزدلفة يجمع بينهما، ثم يبيت بالمزدلفة، فإن أخذ مننها حصى الجمار فَحَسَن، ثم يصلى الصبح بها، ثم يدفع من المزدلفة قبل طلوع الشمس إلى منى لرمى جمرة العقبة يرميها يوم النحر إلى وقت الزوال، ثم يحل له وكل شىء إلا النساء والطيب، والصيد عند مالك، وعند غيره إلا النساء، فإن أراد استعجال تمام الحل كله نهض إلى مكة فطاف طواف الإفاضة، وحل حلا كاملا، ثم يرجع يوم النحر إلى منى فيبيت بها ويرمى الجمار فى الثلاثة الأيام من منى بعد الزوال، إلا أن يتعجل فى يومين وقد تم حجه‏.‏

وحَدُّ منى من محسر إلى العقبة، وكان منزل الرسول عليه السلام من منى بالخيف‏.‏

باب الصَّلاةِ بِمِنًى

- فيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، صَلَّى النَّبِىّ عليه السَّلام بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ، وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ صَدْرًا مِنْ خِلافَتِهِ‏.‏

- وَقَالَ حَارِثَةَ بْنِ وَهْبٍ‏:‏ صَلَّى بِنَا النَّبِىُّ عليه السَّلام وَنَحْنُ أَكْثَرُ مَا كُنَّا قَطُّ وَآمَنُهُ بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ‏.‏

- وَقَالَ عَبْدِ اللَّهِ‏:‏ صَلَّيْتُ مَعَ الرسول صلى الله عليه وسلم رَكْعَتَيْنِ، وأَبِى بَكْرٍ مثله ِ، وعُمَرَ مثله، ثُمَّ تَفَرَّقَتْ بِكُمُ الطُّرُقُ، فَيَا لَيْتَ حَظِّى مِنْ أَرْبَعٍ رَكْعَتَانِ مُتَقَبَّلَتَانِ‏.‏

قد تقدم هذا الباب فى كتاب الصلاة فى أبواب قصر المسافر الصلاة وقد تقدم فيه اختلاف العلماء فيمن يلزمه قصر الصلاة بمنى، وما نزع فيه كل فريق منهم، ونذكر منه هنا طرفًا‏.‏

ذهب مالك والأوزاعى وإسحاق إلى أن أهل مكة ومن أقام بها من غيرها يقصرون الصلاة بمنى وعرفة، وأن القصر سنة الموضع، وإنما يُتِمُّ بمنى وعرفة من كان مقيمًا فيها، وذهب الثورى، وأبو حنيفة، والشافعى، وأحمد، وأبو ثور، إلى أنهم يُتمون الصلاة بها وقالوا‏:‏ إن من لم يكن سفره سفرًا تقصر فيه الصلاة فحكمه حكم المقيم، وكذلك قد تقدم هناك معنى إتمام عثمان وعائشة الصلاة فى السفر وما للعلماء فى ذلك من الوجوه‏.‏

باب صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ

- فيه‏:‏ أُمِّ الْفَضْلِ، شَكَّ النَّاسُ يَوْمَ عَرَفَةَ فِى صَوْمِ النَّبِىِّ عليه السَّلام فَبَعَثْتُ إِلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم بِشَرَابٍ فَشَرِبَهُ‏.‏

قد تقدم هذا الباب فى ‏(‏كتاب الصيام‏)‏، وذكرت فيه قول استحب صوم يوم عرفة بعرفة وغيرها، ومن كرهه، وذكرت الأثر الوارد عن النبى عليه السلام فى فضل صيامه، وأن ذلك كفارة سنتين، وما للعلماء فى صومه من المذاهب، فأغنى عن إعادته فتأمله هناك‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفيه قبول الهدية من المطعم والمشرب، وفيه الشرب فى المحافل للعالم والسلطان‏.‏

باب التَّلْبِيَةِ وَالتَّكْبِيرِ إِذَا غَدَا مِنْ مِنًى إِلَى عَرَفَات

- فيه‏:‏ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِى بَكْرٍ الثَّقَفِىِّ، أَنَّهُ سَأَلَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، وَهُمَا غَادِيَانِ مِنْ مِنًى إِلَى عَرَفَةَ، كَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ فِى هَذَا الْيَوْمِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ كَانَ يُهِلُّ مِنَّا الْمُهِلُّ، فَلا يُنْكِرُ عَلَيْهِ، وَيُكَبِّرُ مِنَّا الْمُكَبِّرُ، فَلا يُنْكِرُ عَلَيْهِ‏.‏

قال أبو عبد الله بن صفرة‏:‏ فى هذا الحديث ابتداء قطع التلبية من الغُدُوِّ من منى، وآخرها رمى جمرة العقبة فى حديث الفضل وأسامة وابن مسعود عن النبى عليه السلام والذى مضى عليه جمهور العلماء من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم وأهل المدينة اختيار قطعها عند الرواح إلى عرفة؛ لأنهم فهموا أن تعجيل قطعها وتأخيره على الإباحة، يدل على ذلك ترك إنكار بعضهم على بعض، وهم فهموا السنن وتلقوها، فوجب الاقتداء بهم فى اختيارهم؛ لأنا أمرنا باتباعهم‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ لا حجة لكم فى هذا الحديث؛ لأن فيه أن بعضهم كان يهل، وبعضهم كان يكبر، ولا يمنع أن يكونوا فعلوا ذلك ولهم أن يلبوا لأن للحاج فيما قبل يوم عرفة أن يكبر، وله أن يهل، وله أن يلبى، فلم يكن تكبيره وإهلاله يمنعانه من التلبية‏.‏

وقال المهلب‏:‏ وجه قطع التلبية عند الرواح إلى الموقف من عرفة؛ لأنه آخر السفر، وإليه منتهى الحاج، وما بعد ذلك فهو رجوع فالتكبير فيه أولى لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 198‏]‏، وقال‏:‏ ‏(‏وَلِتُكَبِّرُوا اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 185‏]‏ فدل هذا على أن التكبير والدعاء لله عند المشعر الحرام وأيام منى أولى من التلبية؛ لأن معنى التلبية الإجابة، وإذا بلغ موضع النداء قطع التلبية، وأخذ فى الدعاء، وسأل الله حاجاته، وسأذكر اختلافهم فى قطع التلبية فى حديث الفضل وأسامة بعد هذا إن شاء الله‏.‏

باب التَّهْجِيرِ بِالرَّوَاحِ يَوْمَ عَرَفَةَ

- فيه‏:‏ سَالِم، قَالَ‏:‏ كَتَبَ عَبْدُالْمَلِكِ إِلَى الْحَجَّاجِ أَنْ لا يُخَالِفَ ابْنَ عُمَرَ فِى الْحَجِّ، فَجَاءَ ابْنُ عُمَرَ وَأَنَا مَعَهُ يَوْمَ عَرَفَةَ حِينَ زَالَتِ الشَّمْسُ، فَصَاحَ عِنْدَ سُرَادِقِ الْحَجَّاج، فَخَرَجَ وَعَلَيْهِ مِلْحَفَةٌ مُعَصْفَرَةٌ، فَقَالَ‏:‏ مَا لَكَ يَا أَبَا عَبْدِالرَّحْمَنِ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ الرَّوَاحَ إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ السُّنَّةَ، قَالَ‏:‏ هَذِهِ السَّاعَةَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ نَعَمْ، قَالَ‏:‏ فَأَنْظِرْنِى حَتَّى أُفِيضَ عَلَى رَأْسِى، ثُمَّ أَخْرُجُ، فَنَزَلَ حَتَّى خَرَجَ الْحَجَّاجُ، فَسَارَ بَيْنِى وَبَيْنَ أَبِى، فَقُلْتُ‏:‏ إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ السُّنَّةَ فَاقْصُرِ الْخُطْبَةَ وَعَجِّلِ الْوُقُوفَ، فَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَى عَبْدِاللَّهِ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ عَبْدُاللَّهِ، قَالَ‏:‏ صَدَقَ‏.‏

هذا الحديث يخرج فى المسندات لقول عبد الله للحجَّاج‏:‏ إن كنت تريد السنة؛ لأن السنة سنة رسول الله‏.‏

وقال معمر‏:‏ إن الزهرى سمع هذا الحديث من ابن عمر؛ لأنه شهد تلك الحجة وحضر القصة، وسمع منه حديثًا آخر، وفيه أن تعجيل الرواح للإمام للجمع بين الظهر والعصر فى مسجد عرفة فى أول وقت الظهر سنة، وقد رَوى عن مالك فى هذا الحديث‏:‏ ‏(‏وعجل الصلاة‏)‏ مكان‏:‏ ‏(‏وعجل الوقوف‏)‏ ابنُ القاسم، وابنُ وهب، ومطرف، ويحيى بن يحيى، وهو صحيح المعنى؛ لأن تعجيل الرواح إنما يراد لتعجيل الصلاتين والجمع بينهما، فدل أن تعجيل الصلاة بعرفة سنة‏.‏

وروى القعنبى وأشهب عن مالك‏:‏ ‏(‏وعجل الوقوف‏)‏، كما رواه البخارى وهو صحيح المعنى أيضًا؛ لأن تعجيل الوقوف بعرفة بعد الصلاة سنة أيضًا، وفيه‏:‏ الغسل للوقوف بعرفة، لقول الحجاج لعبد الله‏:‏ أنظرنى حتى أفيض على ماء‏.‏

وأهل العلم يستحبونه‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ وفيه خروج الحجّاج وهو محرم وعليه ملحفة معصفرة، ولم ينكر ذلك عليه ابن عمر، ففيه حجة لمن أجاز المعصفر للمحرم، وقد تقدم ذكر ذلك فى بابه‏.‏

وقال المهلب‏:‏ فى حديث ابن عمر من الفقه جواز تأمير الأّدْوَن على الأفضل والأعلم، وفيه أن إقامة الحج إلى الحلفاء ومن جَعلوا ذلك إليه، وفيه أن الأمير يجب أن يعمل فى الدين بقول أهل العلم ويصير إلى رأيهم، وفيه مداخلة العلماء السلاطين وأنه لا نقيصة على العلماء فى ذلك، وفيه‏:‏ فتوى التلميذ بحضرة معلمه عند السلطان وغيره، وفيه ابتداء العالم بالفتيا قبل أن يُسأل عنها، وفيه الفهم بالإشارة والنظر، وفيه أن اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم هى السنة وإن كان فى المسألة أوجه جائزة غيرها‏.‏

باب الْوُقُوفِ عَلَى الدَّابَّةِ بِعَرَفَةَ

- فيه‏:‏ أُمِّ الْفَضْلِ، أَنَّ نَاسًا اخْتَلَفُوا عِنْدَهَا يَوْمَ عَرَفَةَ فِى صَوْمِ الرسول صلى الله عليه وسلم، فَأَرْسَلْتُ إِلَيْهِ بِقَدَحِ لَبَنٍ، وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى بَعِيرِهِ، فَشَرِبَهُ‏.‏

الوقوف على الدابة بعرفة أفضل من الوقوف راجلا؛ لأن النبى عليه السلام لا يفعل إلا الأفضل، مع أن فى ذلك قوة على الدعاء والتضرع وتعظيمًا لشعائر الله، وهو الذى اختار مالك والشافعى وجماعة، وقد تقدم، وفيه أن الوقوف على ظهر الدواب مباح إذا كان بالمعروف ولم يجحف بالدابة، وأن النهى الذى ورد ألا تتخذ ظهورها مجالس، فإن معناه فى الأغلب والأكثر بدليل هذا الحديث‏.‏

باب الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلاتَيْنِ بِعَرَفَةَ

وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا فَاتَتْهُ الصَّلاةُ مَعَ الإمَامِ جَمَعَ بَيْنَهُمَا‏.‏

- فيه‏:‏ سَالِمٌ، أَنَّ الْحَجَّاجَ بْنَ يُوسُفَ حين نَزَلَ بِابْنِ الزُّبَيْرِ، سَأَلَ عَبْدَاللَّهِ كَيْفَ تَصْنَعُ فِى الْمَوْقِفِ يَوْمَ عَرَفَةَ‏؟‏ فَقَالَ سَالِمٌ‏:‏ إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ السُّنَّةَ، فَهَجِّرْ بِالصَّلاةِ يَوْمَ عَرَفَةَ، فَقَالَ عَبْدُاللَّهِ ابْنُ عُمَرَ‏:‏ صَدَقَ، إِنَّهُمْ كَانُوا يَجْمَعُونَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِى السُّنَّةِ‏.‏

قال المهلب‏:‏ إنما كان جمع الصلاتين فى أول الوقت لاشتراك الوقتين من أول الزوال إلى غروب الشمس فى أصل السنّة، وبمفهوم كتاب الله ليجعلوا الوقوف وينفردوا فيه الدعاء؛ لأنه موقف يقصد إليه من أطراف الأرض، فكأنهم أرادوا الاستكثار من الدعاء فى بقية النهار؛ لأنهم يدفعون من عرفة إلى المزدلفة عند سقوط الشمس‏.‏

واختلفوا فى الوقت الذى يُؤَذَِن فيه المؤذن بعرفة للظهر والعصر، واختلف قول مالك فى ذلك، فحكى ابن نافع عنه أنه قال‏:‏ الأذان بعرفة بعد جلوس الإمام للخطبة، وحكى آخر عنه أنه يؤذن بعدما يخطب الإمام صدرًا من خطبته، حتى يفرغ من خطبته مع فراغ المؤذن ويقيم، ونحوه قال الشافعى، قال‏:‏ يأتى الإمام المسجد إذا زالت الشمس فيجلس على المنبر فيخطب الخطبة الأولى، فإذا خطب أخذ المؤذون فى الأذان، وأخذ هو فى الكلام وخفف الكلام الآخر حتى ينزل بقدر فراغ المؤذن من الأذان ويقيم‏.‏

واختلفوا فى الأذان والإقامة لهما، فقال مالك‏:‏ يصليهما بأذانين وإقامتين‏.‏

وقال أبو حنيفة والشافعى‏:‏ يصليهما بأذان واحد وإقامتين، وهو قول أبى ثور، وقال أحمد وإسحاق‏:‏ يجمع بينهما بإقامة إقامة أو بأذان وإقامتين إن شاء‏.‏

قال الطبرى‏:‏ وجائز العمل فى ذلك بكل ما جاءت به الآثار‏.‏

واختلفوا فيمن فاتته الصلاة بعرفة مع الإمام، فكان ابن عمر يجمع بينهما، وهو قول عطاء ومالك وأحمد وإسحاق وأبى ثور، وحكاه أبو ثور عن يعقوب ومحمد والشافعى، وقال النخعى وأبو حنيفة والثورى‏:‏ إذا فاتته مع الإمام صلى كل صلاة لوقتها، ولا يجوز له الجمع إلا مع الإمام؛ لأن النبى عليه السلام بَيَّنَ أوقات الصلوات، فلا يجوز الخروج عن وقتها إلا بدلالة، وقد قامت الدلالة على أنه جمع بين الظهر والعصر بعرفة، فلا يجوز الجمع إلا بإمام كما فعل النبى عليه السلام‏.‏

قال المؤلف‏:‏ ووجه الدلالة على الكوفيين من حديث ابن عمكر قول سالم للحجاج‏:‏ إن كنت تريد السنة فهجر بالصلاة يوم عرفة‏.‏

وهذا خطاب يتوجه إلى كل أحد مأمومًا كان أو منفردًا أن سنة الصلاة ذلك الوقت، وكذلك قول ابن عمر‏:‏ ‏(‏كانوا يجمعون بينهما فى السنة‏)‏ لفظ عام يدخل فيه كل مصل، فمن زعم أنه لبعض المصلين فعليه الدليل‏.‏

وقال الطحاوى‏:‏ قد روى عن ابن عمر وعائشة مثل قول أبى يوسف ومحمد من غير خلاف من الصحابة‏.‏

وقال ابن القصار‏:‏ وقول الكوفيين ليس بشىء لقول الرسول صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏صلوا كما رأيتمونى أصلى‏)‏‏.‏

وهذا خطاب لكل أحد فى نفسه أن يصلى الصلاتين فى وقت أحدهما بعرفة كما فعل النبى عليه السلام لأن الخطاب إنما يتوجه إلى هيئة الصلاة ووقتها لا إلى الإمامة‏.‏

واتفق مالك وأبو حنيفة والشافعى على أنه إذا وافق يوم عرفة يوم الجمعة لم يصل بهم الإمام الجمعة، وكذلك قال الطحاوى، قال أبو حنيفة والشافعى‏:‏ لا يُجَمِّعُ، وإنما يصلى بعرفة الظهر ركعتين لا يجهر فيهما بالقراءة، هذا إذا كان الإمام من غير أهل عرفة‏.‏

وقال أبو يوسف‏:‏ يصلى الجمعة بعرفة‏.‏

وسأل أبو يوسف مالكًا عن هذه المسألة بحضرة الرشيد فقال مالك‏:‏ سقاياتنا بالمدينة يعلمون ألا جمعة بعرفة، وعلى هذا أهل الحرمين‏:‏ مكة والمدينة، وهم أعلم بذلك من غيرهم‏.‏

وقد جمع الرسول صلى الله عليه وسلم بين الصلاتين بعرفة وصادف ذلك يوم جمعة، ولم ينقل أنه جهر بالقراءة، فدل أنه صلى الظهر بغير جهر، ولو جهر لنقل، وأيضًا فإن من شرط الجمعة الاستيطان، وليست عرفة بموطن لأهل مكة، فلم يجز لهم أن يصلوا الجمعة، وروى ابن وهب عن مالك أنه إذا وافق يوم جمعة يوم التروية، أو يوم عرفة، أو يوم النحر، أو أيام التشريق قال‏:‏ لا جمعة عليهم، من كان من أهل مكة أو من أهل الآفاق، قال‏:‏ ولا صلاة عيد يوم النحر بمنى‏.‏

باب قَصْرِ الْخُطْبَةِ بِعَرَفَةَ

ذكر فيه حديث ابن عمر، وقد تقدم فى باب التهجير بالرواح يوم عرفة قصر الخطبة بعرفة أو بغيرها سنة، وقد أخرج مسلم فى كتابه عن أبى وائل، عن عمار، أن النبى عليه السلام قال‏:‏ ‏(‏طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه‏)‏‏.‏

وقد أجمعوا أن الإمام لو صلى بغير خطبة بعرفة أن صلاته جائزة، وقال أبو زيد‏:‏ مئنة، كقولك‏:‏ مخلقة ومجدرة ومحراة ولذلك قال أبو عبيد‏:‏ يعنى أن هذا مما يعرف به فقه الرجل، ويستدل به عليه، وكذلك كل شىء دلك على شىء فهو مئنة‏.‏

باب الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ

- فيه‏:‏ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، كنت أطلب بَعِيرًا لِى، يَوْمَ عَرَفَةَ كنت أضللته، فَرَأَيْتُ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم وَاقِفًا بِعَرَفَةَ، فَقُلْتُ‏:‏ هَذَا وَاللَّهِ مِنَ الْحُمْسِ، فَمَا شَأْنُهُ هَاهُنَا‏.‏

- وقَالَ عُرْوَةُ‏:‏ كَانَ النَّاسُ يَطُوفُونَ فِى الْجَاهِلِيَّةِ عُرَاةً إِلا الْحُمْسَ، وَالْحُمْسُ قُرَيْشٌ وَمَا وَلَدَتْ، وَكَانَتِ الْحُمْسُ يَحْتَسِبُونَ عَلَى النَّاسِ، يُعْطِى الرَّجُلُ الرَّجُلَ الثِّيَابَ يَطُوفُ فِيهَا، وَتُعْطِى الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ الثِّيَابَ تَطُوفُ فِيهَا، فَمَنْ لَمْ يُعْطِهِ الْحُمْسُ، طَافَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانًا، وَكَانَ يُفِيضُ جَمَاعَةُ النَّاسِ مِنْ عَرَفَاتٍ، وَيُفِيضُ الْحُمْسُ مِنْ جَمْعٍ، قَالَ‏:‏ وَأَخْبَرَنِى أَبِى عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِى الْحُمْسِ‏:‏ ‏(‏ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 199‏]‏، قَالَ‏:‏ كَانُوا يُفِيضُونَ مِنْ جَمْعٍ، فَدُفِعُوا إِلَى عَرَفَاتٍ‏.‏

قال المهلب‏:‏ إنما كان وقوف قريش وهم الحُمس عند المشعر الحرام من أجل أنها كانت عزتهافى الجاهلية بالحرم، وسكناها فيه، وتقول‏:‏ نحن جيران الله، فكانوا لا يرون الخروج عنه إلى الحل عند وقوفهم فى الحج، ويقولون‏:‏ لا نفارق عزنا، وما حرم الله به أموالنا ودماءنا، وكانت طوائف العرب تقف فى موقف إبراهيم عليه السلام من عرفة، وكان وقوف النبى عليه السلام مع طوائف العرب بعرفة ليدعوهم إلى الإسلام، وما افترض الله عليه من تبليغ الدعوة، وإفشاء الرسالة، وأمر الناس كلهم بالإفاضة من حيث أفاض الناس من عرفة‏.‏

وقال إسماعيل بن إسحاق‏:‏ قال الضحاك‏:‏ الناس فى هذه الآية هو إبراهيم عليه السلام‏.‏

وقال الطحاوى‏:‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 198‏]‏ الآية‏.‏

فكان ظاهر الآية على أن الإفاضة الأولى من عرفة، وعلى أن الإفاضة الثانية من المشعر الحرام؛ لأنه قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَاذْكُرُوا اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ‏(‏إلى‏)‏ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ ‏(‏غير أنا وجدنا أهل العلم تأولوا ذلك على إفاضة واحدة، وكانت هذه الآية عندهم من المحكم المتفق على المراد به، وجعلوا قوله‏:‏ ‏(‏ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ ‏(‏فى معنى وأفيضوا، وقالوا‏:‏ قد تجعل ثم فى موضع الواو، كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِى نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 46‏]‏ فكان قوله‏:‏ ‏(‏ثُمَّ اللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ ‏(‏فى معنى‏:‏ والله شهيد، وفى قوله‏:‏ ‏(‏فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ‏}‏ الآية، دليل على أنه قد أمرهم بوقوف عرفة قبل إفاضتهم منها‏.‏

غير أنا لم نجده تعالى ذكر لنا ابتداء ذلك الوقوف أى وقت هو فى كتابه، وبينه لنا فعل رسوله فى حديث جابر وحديث ابن عمر، حين قال للحجاج يوم عرفة حين زالت الشمس‏:‏ ‏(‏الرواح إن كنت تريد السنة‏)‏‏.‏

فدل أن دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عرفة كان بعد زوال الشمس يوم عرفة‏.‏

قال المؤلف‏:‏ ولم يختلفوا أن النبى عليه السلام صلى الظهر والعصر جميعًا بعرفة، ثم ارتفع فوقف بجبالها داعيًا الله إلى غروب الشمس، فما غربت دفع منها إلى المزدلفة‏.‏

واختلفوا إذا دفع من عرفة قبل غروب الشمس ولم يقف فيها ليلا، فذهب مالك إلى أن الاعتماد فى الوقوف بعرفة على الليل من ليلة النحر، والنهار من يوم عرفة تَبَع، فإن وقف جزءًا من النهار وحده ودفع قبل غروب الشمس لم تجزئه، وإن وقف جزءًا من الليل، أى جزء كان، قبل طلوع الفجر من يوم النحر أجزأه، وأخذ فى ذلك بما رواه عن نافع، عن ابن عمر أنه قال‏:‏ من لم يقف بعرفة ليلة المزدلفة قبل أن يطلع الفجر فقد فاته الحج، وعن عروة بن الزبير مثله‏.‏

وقال أبو حنيفة والثورى والشافعى‏:‏ الاعتماد على النهار من يوم عرفة من وقت الزوال، والليل كله تبع، فإن وقف جزءًا من النهار أجزأه، وإن وقف جزءًا من الليل أجزأه إلا أنهم يقولون‏:‏ إن وقف جزءًا من النهار بعد الزوال دون الليل كان عليه دم، وإن وقف جزءًا من الليل دون النهار لم يجب عليه دم، وأخذوا بحديث عروة ابن مضرس، إلا فى إيجاب الدم لمن وقف نهارًا دون الليل، وتفريقهم فى وقوف النهار بين بعد الزوال وقبله، فإنه ليس فى حديث عروة بن مضرس، وذهب أحمد بن حنبل إلى أن وقت الوقوف من حين طلوع الفجر من يوم عرفة إلى طلوع الفجر من ليلة النحر، فسوى بين أجزاء النهار وأجزاء الليل، فأخذ فى ذلك بنص حديث عروة بن مضرس قال‏:‏ أتيت النبى عليه السلام وهو بمزدلفة فقلت‏:‏ يا رسول الله، إنى أكللت ناقتى وأتعبت نفسى، وما من جبل إلا وقفت عليه، فهل لى من حج‏؟‏ فقال عليه السلام‏:‏ ‏(‏من صلى معنا هذه الصلاة، يعنى‏:‏ بجمع، وكان قد وقف بعرفة ليلا أو نهارًا فقد تم حجه‏)‏‏.‏

فلم يفرق بين النهار والنهار، رواه شعبة عن عبد الله بن أبى السفر، عن الشعبى سمعته يقول‏:‏ حدثنى عروة بن مضرس، عن النبى عليه السلام‏.‏

وقال ابن القصار‏:‏ أما قوله فى حديث عروة‏:‏ ‏(‏وكان قد وقف بعرفة ليلا أو نهارًا‏)‏ فنحن نعلم أنه عليه السلام وقف وقفة واحدة بعرفة جمع فيها بين الليل والنهار، فصار معناه‏:‏ من ليل ونهار، واستفدنا من فعله عليه السلام أن المقصود آخر النهار، وهو الوقت الذى وقفه، وعقلنا بذلك أن المراد جزء من النهار مع جزء من الليل؛ لأنه لم يقتصر عليه السلام على جزء من النهار دون الليل، ولو تحرر هذا من فعله عليه السلام لجاز أن تكون ‏(‏أو‏)‏ بمعنى‏:‏ ‏(‏الواو‏)‏، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 24‏]‏ معناه‏:‏ وكفورًا، فإن قيل‏:‏ وأنتم لا توجبون الجمع بين النهار والليل فى الوقوف، قيل‏:‏ لما قال‏:‏ ‏(‏فقد تم حجه‏)‏ علمنا أن التمام يقتضى الكمال والفضل، فيجمع فيه بين السنة والفرض، والسنة الوقوف بالنهار، والفرض هو الليل؛ لأنه هو انتهاء الوقوف، فهو الوقت المقصود، وهو أخص به من النهار؛ لأنه لو انفرد وقوفه فى هذا الجزء لأجزأه بإجماع، ولووقف هذا القدر من النهار لكان فيه خلاف ووجب عليه الدم، فكيف يكون النهار أخص به من الليل‏.‏

والحُمْسُ‏:‏ قريش وما ولدت من العرب، والتحمس‏:‏ التشدد، وذلك أن قريشًا أحدثت هذا الدين فقالت‏:‏ لا نطوف بالبيت عراة، ولا تسلى نساؤنا سمنًا، ولا تغزل وبرًا، ولا تخرج إلى عرفات، ولا نزايل حرمنا، ولا نعظم غيره، ولا نطوف بين الصفا والمروة، وكانوا يقفون بالمزدلفة، ومن سواهم من العرب يقال لهم‏:‏ الحلّة، كانوا إذا حجوا طافوا بالبيت عراة، ورموا ثيابهم التى قدموا فيها وقالوا‏:‏ نكرم البيت أن نطوف به فى ثيابنا التى جرحنا فيها الآثام، فما طرحوا من ثوب لم يمسه أحد، وسمى‏:‏ النسئ واللقى والحريم، ذكره ابن الكلبى‏.‏

باب السَّيْرِ إِذَا دَفَعَ مِنْ عَرَفَةَ

- فيه‏:‏ ‏[‏عروة‏]‏ أنه سُئِلَ ‏[‏أسامة بن زيد‏]‏ كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسِيرُ فِى حَجَّةِ الْوَدَاعِ حِينَ دَفَعَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ كَانَ يَسِيرُ الْعَنَقَ، فَإِذَا وَجَدَ فَجْوَةً نَصَّ، قَالَ هِشَامٌ‏:‏ وَالنَّصُّ فَوْقَ الْعَنَقِ‏.‏

قال المؤلف‏:‏ تعجيل الدفع من عرفة والله أعلم إنما هو لضيق الوقت؛ لأنهم إنما يدفعون من عرفة إلى المزدلفة عند سقوط الشمس، وبين عرفة والمزدلفة نحو ثلاثة أميال، وعليهم أن يجمعوا المغرب والعشاء بالمزدلفة، وتلك سنتها، فتعجلوا فى السير لاستعجال الصلاة‏.‏

قال الطبرى‏:‏ وبهذا قال العلماء فى صفة سيره عليه السلام من عرفة إلى المزدلفة، ومن المزدلفة إلى منى أنه كان يسير العَنَق، وبذلك عمل السلف، قال الأسود‏:‏ شهدت مع عمر الإفاضتين جميعًا لا يزيد على العَنَق، لم يُوضِعْ فى واحدة منهما، وكان ابن عمر سيره‏:‏ العَنَق، وعن ابن عباس مثله‏.‏

وقال آخرون‏:‏ الإفاضة من عرفات وجمع الإِيضَاع دون العَنَق، وروى شعبة عن إسماعيل بن رجاء قال‏:‏ سمعت معرورًا قال‏:‏ رأيت عمر بن الخطاب رجلا أصلع على بعير يقول‏:‏ أيها الناس، أَوْضِعُوا فإنا وجدنا الإفاضة الإيضاع، وروى ابن عيينة عن ابن المنكدر، عن سعيد بن عبد الرحمن بن يربوع، عن جبير بن الحويرث، أن أبا بكر الصديق وقف على قزح وقال‏:‏ أيها الناس، أصبحوا أصبحوا، ثم دفع فكأنى أنظر إلى فخذه قد انكشف مما يخرش بعيره بمحجنه‏.‏

قال الطبرى‏:‏ والصواب فى صفة السير فى الإفاضتين جميعا ما صحت به الآثار أنه عليه السلام كان يسير العنق إلا فى وادى محسر، فإنه يوضع فيه لصحة الخبر عن النبى عليه السلام بذلك، ولو أَوْضع أحد فى الموضع الذى ينبغى أن يعنق فيه، أو أعنق فى الموضع الذى ينبغى أن يوضع فيه لم يلزمه شئ؛ لإجماع الجميع على ذلك، غير أنه يكون مخطئًا سبيل الصواب وأدب رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

والعَنَق‏:‏ سير فوق المشى، والنَّصُّ‏:‏ أرفع السير، ومن ذلك قيل لمنصة العروس‏:‏ منصة؛ لارتفاعها، فإذا ارتفع عن ذلك فصار إلى العَدْوِ فهو الخَبَب، فإذا ارتفع عن ذلك فهو الوَضْع والإِيضَاع، والفَجْوَةُ‏:‏ الفُرْجَةُ والسعة، ومنه قوله‏:‏ ‏(‏وَهُمْ فِى فَجْوَةٍ مِّنْهُ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 17‏]‏ ويخرش بعيره يعنى‏:‏ يخرشه بالمحجن، ومنه تخارش السنانير والكلاب‏.‏

باب النُّزُولِ بَيْنَ عَرَفَةَ وَجَمْعٍ

- فيه‏:‏ أُسَامَةَ، أَنَّ النَّبِىَّ عليه السَّلام حَيْثُ أَفَاضَ مِنْ عَرَفَةَ، مَالَ إِلَى الشِّعْبِ، فَقَضَى حَاجَتَهُ فَتَوَضَّأَ، فَقُلْتُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتُصَلِّى‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ ‏(‏الصَّلاةُ أَمَامَكَ‏؟‏‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ نَافِعٍ، وَكَانَ ابْن عُمَرَ يَجْمَعُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِجَمْعٍ، غَيْرَ أَنَّهُ يَمُرُّ بِالشِّعْبِ الَّذِى أَخَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَيَدْخُلُ، فَيَنْتَفِضُ وَيَتَوَضَّأُ، وَلا يُصَلِّى حَتَّى يُصَلِّىَ بِجَمْعٍ‏.‏

نزوله صلى الله عليه وسلم بالشعب إنما كان نزول حاجة للبول، وليس ذلك من سنن الحج، وهو مباح لمن أراد امتثال أفعاله عليه السلام مثل ابن عمر، فإنه كان يقف فى المواضع التى وقف فيها النبى عليه السلام ويدير ناقته حيث أدار فيها ناقته، ويقتفى آثاره وحركاته، وليس ذلك بلازم إلا فيما تعلق منها بالشريعة‏.‏

باب أَمْرِ النَّبِىِّ عليه السَّلام بِالسَّكِينَةِ عِنْدَ الإفَاضَةِ وَإِشَارَتِهِ إِلَيْهِمْ بِالسَّوْطِ

- فيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، دَفَعَ مَعَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ عَرَفَةَ، فَسَمِعَ النَّبِىُّ عليه السَّلام وَرَاءَهُ زَجْرًا شَدِيدًا، وَضَرْبًا لِلإبِلِ، فَأَشَارَ بِسَوْطِهِ إِلَيْهِمْ، وَقَالَ، عليه السَّلام‏:‏ ‏(‏أَيُّهَا النَّاسُ، عَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ، فَإِنَّ الْبِرَّ لَيْسَ بِالإيضَاعِ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ إنما نهاهم عن الإيضاع والجرى إبقاء عليهم، ولئلا يجحفوا بأنفسهم بالتسابق من أجل بُعْدِ المسافة، لأنها كانت تبهرهم فيفشلوا وتذهب ريحهم، فقد نهى عن البلوغ إلى مثل هذه الحال‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ فكان فى معنى قوله‏:‏ ‏(‏عليكم بالسكينة‏)‏ إلا فى بطن وادى محسر، فقد كان ابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر، وابن الزبير يوضعون فى وادى محسر، وتبعهم على ذلك كثير من العلماء، وقال النخعى‏:‏ لما رأى عمر سرعة الناس فى الإفاضة من عرفة وجمع قال‏:‏ ‏(‏واللله إنى لأعلم أن البر ليس برفعها أذرعها، ولكن البر شىء تصبر عليه القلوب‏)‏‏.‏

وقال عكرمة‏:‏ سأل رجل ابن عباس عن الإيجاف، فقال‏:‏ إنَّ حَلْ حَلْ يشعل عن ذكر الله، ويوطئ ويؤذى‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ وحديث أسامة يدل أن أمره بالسكينة إنما كان فى الوقت الذى لم يجد فجوة، وأنه حين وجد فجوة سار يسيرًا فوق ذلك، وإنما أراد بالسكينة فى وقت الزحام‏.‏

وقالعمر بن عبد العزيز فى خطبته يوم عرفة‏:‏ إنكم شخصتم من القريب والبعيد، وتكلفتم من المؤنة ما شاء الله، وليس السابق من سبق بعيره وفرسه، ولكن السابق من غفر له‏.‏